الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} يعني الإنجيل في أمر عيسى، وفرَّقوا القول فيه :﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ بأن الله واحد، وأن عيسى عبدُ اله ورسوله، ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، أي : المعاداة والمخالفة.
وقيل : المراد اليهود والنصارى، واختلافهم هو قولُ اليهودِ : عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقول النصارى : المسيح ابنُ الله، وأنكروا نبوة محمد، قالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش، لأنهم أميُّونَ، ونحن أهل الكتاب.
وقوله :﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ أي : الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم ؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين، والعناد على الجمع العظيم لا يصح.
[وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب، وهو جمع عظيم.
وقال الأخفش : في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ؛ بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
وقال ابن عمر وغيره : أخبر - تعالى - عن] اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائقِ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا.
وفي الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
قوله :" بَغْياً " فيه أوجه : أحدها : أنه مفعول من أجله، العامل فيه " اخْتَلَفَ " والاستثناء مُفَرَّغ، و التقدير : وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره، قاله الأخفش، ورجحه أبو علي.
الثاني : أنه مصدر في محل نصب على الحال من " الذين " كأنه قيل : ما اختلفوا إلا في هذه الحال، والاستثناء مُفَرَّغ أيضاً.
الثالث : أنه منصوب على المصدر، والعامل فيه مقدَّر، كأنه لما قيل :﴿وَمَا اخْتَلَفَ﴾ دل على معنى : وما بغى، فهو مصدر، قاله الزّجّاجُ، ووقع بعد " إلا " مستثنيان، وهما :" مِنْ بَعْدِ " و " بَغْياً " وقد تقدم تخريج ذلك.
قال الأخفش : قوله :" بَغْياً " من صلة قوله :" اخْتَلَفُوا "، والمعنى : وما اختلفوا بغياً بينهم إنما اختلفوا للبغي.
قال القفّالُ : وهذا أجودُ من الأول ؛ لأن الأولَ يُوهِمُ أنَّ اختلافَهم بسبب مجيء العلم، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحَسَدِ والبغي.
قوله :﴿وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ " مَنْ " مبتدأ، وفي خبره الأقوال الثلاثة - أعني : فعل
١٠٨
الشرط وحده، أو الجواب وحده، أو كلاهما - وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر، أي : سريع الحساب له.
فصل وهذا تهديد، وفيه وجهان : الأول : المعنى : فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً، فيحاسبه، أي : يُجازيه على كُفْره.
الثاني : أن الله تعالى سيُعْلِمه بأعماله معاصيه وأنواع كفره، بإحصاء سريع، مع كَثْرَةِ الأعمال.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٠١
﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ أي : خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوَّرة، المغالطات، فأسْند أمرك إلى ما كُلِّفْتَ به من الإيمان والتبليغ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا : لسنا على ما سميتنا به يا محمد، إنما اليهودية والنصرانية نسب، والدين هو الإسلام، ونحن عليه، فقال الله تعالى - ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ أي : انقدت لله وحده، وإنما خص الوجه ؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان.
وقال الفرّاءُ : معناه : أخلصت عملي لله.
وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه : أحدها : أنه - عليه السلام - كان قد أظهر لهم الحجةَ - على صدقه - قبل نزول هذه الآية - مراراً، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزاتِ بالقرآن، ودعاء الشجرة، وكلام الذئب، وغيرها مما يدل على صحة دينه، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، وأجاب عن شبه القوم بأسرها، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد، ونفى الضدَّ والندَّ والصاحبة والولد بقوله :﴿شَهِدَ اللَّهُ لا اا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران : ١٨]، وبين - تعالى - أن إعراضهم عن الحق إنما كان بَغْياً وحَسَداً، فلما لِمْ يَبْقَ حجة على فِرَق الكفار إلا أقامها، قال بعده :﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ وهذه عادة المُحِقِّ مع المُبْطِلِ، إذا أورد عليه حُجَّة بَعْدَ حُجَّة، ولم يرجع إليه، فقد يقول - في آخر الأمر - : أما أنا فمنقادٌ للحق، فإن وافقتم، واتبعتم الحق الذي أنا عليه، فقد اهتديتم، وإن اعترضتم، فالله بالمرصاد.
ثانيها : أن القوم كانوا مُقِرِّينَ بوجود الصانع، وكونه مستحقاً للعبادة، فكأنه - عليه السلام - قال لهم : هذا القدر متفق عليه بين الكُلِّ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات،
١٠٩