صلى الله عليه وسلم بمِنًى - فقال : أيُّ الجهاد أفضلُ ؟ فقال عليه السلام :" أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ ".
قال ابن جريج : كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيدكِّرُون قومَهم فيُقْتلون، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم، فيذكرون قومَهم، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.
قوله :﴿أُولَـائِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ﴾ قرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن " حَبَطَتْ " بفتح الباء - وهي لغة معروفة، أي : بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وقَتْلِهم، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم، واسترقاقِهم، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب، وحصول العقاب - ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ يَدْفَعُونَ عَنْهُم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١١٢
لمَّا نَبَّهَ على عِنادِهم بقوله :﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ [آل عمران : ٢٠] بَيَّنَ في هذه الآيةِ غايةَ عِنادِهم، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكُلَّ ؛ لأنه ذكره في معرض الذم، إلا أنه قد دَلَّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك، لقوله تعالى :﴿مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران : ١١٣] والمراد بالكتاب غير القرآن ؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى.
فصل في سبب النزول وجوهٍ : أحدها : رَوَى ابنُ عباس : أنَّ رجلاً وامرأةً - من اليهود - زَنَيَا وكانا ذَوَى شَرَفٍ، وكان في كتابهم الرَّجْمُ، فكرهوا رَجْمَهُمَا ؛ لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي ﷺ، رجَاءَ أن يكون عنده رخصةٌ في تَرْك الرجم، فحكم الرسولُ - عليه السلام - بالرجم، فأنكروا ذلك، فقال - عليه السلام - " بيني وبينكم التوراةُ ؛ فإن فيها الرَّجمَ، فمَنْ أعْلَمُكم " ؟ قالوا : رجل أعور يسكن فَدك، يقال له : ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدِمَ المدينةَ، وكان جبريلُ قد وصفه لرسولِ الله ﷺ فقال رسولُ الله ﷺ :" أنت ابن صُوريا " ؟ قال : نَعَمْ، قال :
١١٦
" أنت أعلمُ اليهودِ " ؟ قال : كذلك يَزْعُمُونَ، قال :" فأحْضِروا التوراةَ "، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابنُ سَلاَم : قد جاوَزَ موضِعَها يا رسول الله، وقام فرفع كَفَّه عنها فوجدوا آيةَ الرجم، فأمر النبي ﷺ بهما فرُجِمَا، فغضبت اليهودُ لذلك غَضَباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثانيها : روى سعيدُ بنُ جُبَيْر وعكرمةُ - عن ابنِ عباس - قال : دخل رسولُ الله ﷺ بيت المِدْرَاس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله - عز وجل - فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : على ملة إبراهيم، قالا : إن إبراهيمَ كان يهوديًّا فقال رسول الله ﷺ :" فهلموا إلى التوراة ؛ فهي بيننا وبينكم حَكَمْ فأتيَا عليه "، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثالثها : أن علامة بعثة محمد ﷺ مذكورةٌ في التوراةِ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما دادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم، فأبَوْا، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيةَ، ولذلك قال :﴿فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران : ٩٣] وهذه الآية تدل على أن دلائلَ صحةِ نبوتهِ موجودةٌ في التوراة ؛ إذْ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه، ولَمَا ستروا ذلك.
رابعها : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى ؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد ﷺ كانت موجودة في التوراة والإنجيل.
وقوله :﴿نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ﴾ أي : من علم الكتاب ؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره، فهم قد أوتوا كل الكتاب، والمراد بذلك العلماء منهم، وهم الذين يُدْعَوْن إلى الكتاب ؛ لأن مَنْ لا علمَ له بذلك لا يدعى إليه.
قوله :" يُدْعَوْنَ " في محل نَصْب على الحال من ﴿الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابِ﴾.
قوله :" إلَى كِتَابِ اللهِ " قال أكثرُ المفسرين : هو التوراة ؛ لوجوهٍ : أحدها : ما ذكرنا في سبب النزول.
ثانيها : أن الآيةَ سِيقت للتعجُّب من تمرُّدِهم وإعْرَاضِهم، والتعجُّب إنما يحصل إذا تَمَرَّدُوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته.
ثالثها : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية ؛ لأنه لما بَيَّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبَّره على معاندتهم - مع ظهور الحُجَّة عليهم - بيَّن أنهم استعملوا طريقَ المكابرةِ في نفس كتابِهم الذي أقروا بصحته، فستروا ما فيه من الدلائلِ الدالةِ على صحةِ نبوةِ محمدٍ - عليه السلام - فهذا يدل على أنهم في غاية التعصُّب والبُعْدِ عن قبول الحق.
١١٧