تعطيهم هذا الملك، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه، ونظيره قوله تعالى :﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة : ٢٥٧] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ.
وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام - :﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف : ٨٨] وقول الأنبياء :﴿وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾ [الأعراف : ٨٩] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط -.
وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ : إحداها : الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً.
الثانية : الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر، إلا أنهم قالوا : إن محمداً فقير ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف : ٣١].
الثالثة : اليهود الذين قالوا : إن النبوة في أسلافِنَا، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة.
الرابعة : المنافقون، فإنهم ك انوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله :﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء : ٥٤].
وقيل : المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف، وهو عبارة عن أشياء : أحدها : كثرة المال والجاه.
الثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه، ويكون تحت أمرِه ونهيِه.
الثالث : أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع.
أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها.
وأما الجاه، فالأمر فيه أظهر، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله.
وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى ؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى.
فصل قال الكعبيُّ : قوله :﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ﴾، أي : بالاستحقاق، فتؤتيه من يقوم به، وتنزعه من الفاسقِ ؛ لقوله تعالى :﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة : ١٢٤] وقوله - في العبد الصالح - :﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة : ٢٤٧] فجعله سبباً للملك.
وقال الجبائيُّ : هذا الملك مختص بملوك العَدْل، فأما ملوك الظلم، فلا يجوز أن يكون ملكُهم بإيتاء الله - تعالى - وكيف يصح أن يكون بايتاء الله - تعالى - وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه، ومنعهم من ذلك، فقد صح - بما ذكرناه - أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله - تعالى - آتاهم ذلك الملكَ : وأما الظالمون فلا، قالوا : ونظيرُ هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زَجَرَ الله - تعالى - عنه، وأمره بأن يرده على مالكه، فكذا ههنا.
قالوا : وأما النزعُ، فإنه بخلاف ذلك ؛ لأنه - كما ينزع الملكَ من الملوك العادلين ؛ لمصلحة تقتضي ذلك - قد ينزع الملكَ عن الملوك الظالمين، ونزع الملك يكون بوجوه : منها : بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدرة، والحواسّ.
ومنها : بورود الهلاكِ، والتلف على الأموال.
ومنها : أن يأمر الله - تعالى - المُحِقَّ بأن يسلبَ الملكَ الذي في يد المتغلب المُبْطِل، ويؤتيه القُوة، والنُّصرة عليه، فيقهره، ويسلب ملكه، فيجوز أن يُضاف هذا السلب، و النزع إلى الله - تعالى - لأنه واقع عن أمره، كما نزع الله - تعالى - مُلْكَ فارسِ، على يد الرسول - عليه السلام.
فالجوابُ : أن تقول : حصولُ المُلْكِ للظالِم إما أن يكون حصل لا عَنْ فاعل، وذلك يقتضي نفي الصانع، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلِّب، وذلك باطل ؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له ألبتة، فلم يبق إلا أن يقال : بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى - وهذا أمرٌ ظاهر ؛ فإن الرجلَ قد يكون مُهَاباً، والقلوب تميل إليه، والنصر قريب له، والظفر جليس معه، وأينما توجه حصل مقصوده، وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوالِ الملوكِ اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله.
ولذلك قال بعض الشعراءِ :[الكامل] ١٣٨٨ - لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدتنِي
بِأجَلِّ أسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٢٢
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الغِنَى
ضِدَّانِ مُفْتَرقَانِ أيَّ تَفَرُّقِ
وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ
بُؤسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ
وقيل : قوله تعالى :﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ﴾ محمول على جميع أنواع الملكِ، فيدخل فيه ملك النبوةِ، وملكُ العلمِ، وملكُ العقلِ والأخلاقِ الحسنةِ، وملكُ البقاءِ
١٣٠