فإن قيل : لِمَ لَمْ يمتنع أن تكون " ما " شرطية على هذه القراءة، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة ؟ فالجواب : أن العلة إن كانت رفعَ الفعل، وعدم جَزْمه - كما قال به الزمخشريّ وابن عطية - فهي مفقودة في هذه القراءة ؛ لأن الماضيَ مبني اللفظ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عملٌ وإن كانت العلة أن النية به التقديم، فيلزم عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةًن فهي أيضاً مفقودة فيها ؛ إذ لا دَاعِيَ يدعو إلى ذلك.
قوله - هنا - على بابها، من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوعِ غيره، وعلى هذا ففي الكلام حذفان : أحدهما : حذف مفعول " تَوَدُّ ".
والثاني : حذف جواب " لَوْ "، والتقدير فيها : تود تباعُدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّت بذلك، أو لفرحت ونحوه.
والخلاف في " لو " بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة، يبعد مجيئه هنا ؛ لأن بعدها حرفاً مصدرياً وهو " أن ".
قال أبو حيان : ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى :﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات : ٢٣]، قال شهاب الدين : إلا قليلاً يشعر بجوازه، وهو لا يجوز ألبتة، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة.
وقد تقدم الكلام في " أنَّ " الواقعة بعد " لَوْ " هذه، هل محلها الرفع على الابتداء، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر، أي : لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن " لو " - هنا - مصدرية، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِـ " تَوَدُّ "، أي تود تباعد ما بينها وبينه، وفي ذلك إشكال، وهو دخول حرف مصدري على مثله، لكن المعنى على تسلط الوداد على " لو " وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي.
والأمد : غاية الشيء ومنتهاه، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ " أفعال ".
قال الراغب :" الأمَد والأبد متقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود، وَلا يتقيد فلا يقال : أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر إذا قيل : أمَد كذا، كما يقال : زمان كذا، والفرق بين الأمد والزمان، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان ".
فصل المعنى :﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ﴾ يعني : لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً.
١٥٥
قال السُّدِّيُّ : مكاناً بعيداً.
وقال مقاتلٌ : كما بين المَشرق والمَغْرِب ؛ لقوله تعالى :﴿يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ [الزخرف : ٣٨].
قال الحسنُ : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً.
اعلم أن المقصود تَمَني بُعْدِه، سواء حملنا لفظ الأمَد على الزمان، أو على المكان.
ثم قال :﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وهو تأكيد للوعيد، ثم قال :﴿وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ وفيه وجوه : الأول : أنه رؤوفٌ بهم، حَيْثُ حذَّرهم من نفسه، وعرفهم كمالَ علمِه وقدرتهِ، وأنه يُمْهِل ولا يُهْمِل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذَّرهم من استحقاق غضبه.
قال الحسنُ :" ومن رأفته بهم أن حذَّرَهُم نفسه ".
الثاني : أنه رؤوف بالعباد، حيث أمْهَلَهُمْ للتوبة والتدارك والتَّلاَفِي.
الثالث : أنه لما قال :﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ - وهو للوعيد - أتبعه بالوعد، وهو قوله :﴿وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾، ليعلم العبد أن وَعْدَ رحمته غالب على وعيده.
الرابع : أن لفظ " العباد " في القرآن مختص بالمؤمنين، قال تعالى :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً﴾ [الفرقان : ٦٣]، وقال :﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان : ٦]، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة، فقال :﴿وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾، أي : كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٧
قرأ العامة " تُحِبُّونَ " - بضم حرف المضارعة، من " أحَبَّ " وكذلك ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
وقرأ ابو رجاء العُطَارِديّ " تَحِبُّون، يَحْبِبْكم " بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ.
وحكى أبو زيد : حَبَبْتُهُ، أحِبُّه.
وأنشد : ١٤١٠ - فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ
وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ
١٥٦


الصفحة التالية
Icon