لأنه يقابَل بالجزاءِ، وهذا كلام مَن لم يرد بفعله إلا رضا الله - تعالى - والإخلاصَ في عبادته ومعنى ﴿السَّمِيعُ﴾ أي : لتضرعي ودعائي وندائي ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في ضميري ونيَّتي.
قوله :﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ الضمير في " وضعتها " يعود على " ما " - من حيث المعنى - ؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها.
وقيل : إنما أنث ؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس، قاله الزمخشريُّ.
وقال ابنُ عطية : حملاً على الموجودة، ورفعاً للفظ " ما " في قوله ﴿مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾.
قوله :﴿أُنْثَى ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنها منصوبة على الحال، وهي حال مؤكِّدَة ؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير، فجاءت " أُنْثَى " مؤكدة.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلت : كيف جاز انتصاب " أُنْثَى " حالاً من الضمير في " وَضَعْتُهَا " وهو كذلك كقولك : وضعت الأنثى أُنْثَى ؟ قلت : الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد، كما أنث الاسم في من كانت أمك ؛ لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى :﴿فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْن﴾ [النساء : ١٧٦].
وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ، كأنه قيل : إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى ".
يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة ؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول، فقال : وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن " أنثى " تكون حالاً مؤكِّدة، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة، وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى " ما " - فليس ذلك نظير ﴿وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾ ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى " ما " إذ المعنى : اية امرأة كانت أمك، أي كانت هي أي أمُّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى " ما " ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير ﴿وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾ ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة غلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم، بخلاف " أنْثَى " فإنه لمجرَّد التأكيد، وأما تنظيره بقوله :﴿فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْن﴾.
فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ ؛ لتثنية الخبر.
والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في ﴿وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾ - عائداً على النسمة أو النفس، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة.
قال شهاب الدين : قوله :" ليس نظيرها ؛ لأن من كانت أمك " حُمل فيه على معنى
١٧٢
من، وهذا أنث لتأنيث الخبر " ليس كما قال، بل هو نظيره، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى " ما " كما حمل هناك على معنى " من "، وقول الزمخشري :" لتأنيث الخبر " أي لأن المرادَ بـ " من " : التأنيث، بدليل تأنيث الخبر، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد بـ " من " المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى، بيّن لنا أن المراد بـ " ما " في قوله :﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ أنه شيءٌ مؤنث، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر، وأما قوله :" فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف ﴿وَضَعْتُهَآ أُنْثَى ﴾، فإنه لمجرد التوكيد " ليس بظاهر أيضاً ؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المأما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض، فلا يضر ذلك في التنظير، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان : أحدهما : أنها مؤكِّدة إن قلنا : إن الضمير في ﴿وَضَعَتْهَا﴾ عائد على معنى " ما ".
الثاني : أنها مبيِّنة إن قلنا : إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى.
الوجه الثاني من وجهي " أُنْثَى " : أنها بدل من " ها " في ﴿وَضَعَتْهَا﴾ بدل كل من كل - قاله أبو البقاء.
ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو :﴿وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنبياء : ٣] - على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه، والصحيح جوازه كقول الشاعر :[الطويل] ١٤١٧ - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٦٧


الصفحة التالية
Icon