أي يسمى بالجُعَل - وقد تقدم الكلامَ في مريمَ واشتقاقها ومعناها.
فصل ظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وَضْعِ حَنَّة مَرْيمَ، فلذلك تولَّت الأم تسميتها ؛ لأن العادة أن التسمية يتولاّها الآباء، وأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله أن يعصمها من آفاتِ الدين والدنيا ؛ لأن مريم - في لغتهم - العابدة، ويؤكد ذلك قوله : بعد ذلك :﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾.
وقولها :﴿سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ جَعَلت هذا اللفظَ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة، وعلى أن تسمية الولد يكون يوم الوضع.
قوله :﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا﴾ عطف على ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾ وأتى - هنا - بخبر " إنَّ " فعلاً مضارعاً ؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها، بخلاف قوله :﴿وَضَعْتُها﴾ و ﴿سَمَّيْتُهَا﴾ حيث أتى بالخبرين ماضيَيْن ؛ لانقطاعهما، وقدم المُعَاذَ به على المعطوف ؛ اهتماماً به.
وفتح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة، وكذلك ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين فإن الكُلَّ اتفقوا على سكونها فيهما - :﴿بِعَهْدِى أُوف﴾ [البقرة : ٤٠] و ﴿آتُونِى أُفْرِغ﴾ [الكهف : ٩٦] والباقي عشرة مواضع، هذا الذي في هذه السورة أحدها.

فصل لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد، تضرعت إلى الله تعالى


١٧٦
أن يحفظها من الشيطان، وأن يجعلها من الصالحات القانتات.
قال القرطبي :" معنى قوله :﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ يعني خادم الرب - بلغتهم - ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾ مريمَ.
﴿وَذُرِّيَّتَهَا﴾ عيسى.
وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصّة ".
قوله :﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾ الجمهور على ﴿فَتَقَبَّلَهَا﴾ فعلاً ماضياً على " تَفَعَّل " بتشديد العينِ - و ﴿رَبُّهَا﴾ فاعل به، وتفعل يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير، و - " تَفَعَّل " يأتي بمعنى " فَعَل " مُجَرَّداً، نحو تعجب وعَجب من كذا، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه.
والثاني : أن " تفعل " بمعنى : استفعل، أي : فاستقبلها ربُّها، يقال : استقبلت الشيءَ أي : أخذته أول مرة.
والمعنى : أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها.
ومنه قول الشاعر :[الوافر] ١٤١٩ - وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ
وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٦٧
١٣٩
ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله.
و " تَفَعَّل " بمعنى " استفعل " كثير، نحو : تعظم، واستعظم، وتكبر، واستكبر، وتعجَّل واستعجل.
قال بعضُ العلماء :" إن ما كان من باب التفعُّل، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل، كالتصبُّر والتجلُّد، ونحوهما، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في غظهار الصَبْرِ والجَلَدِ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ ".
فإن قيل : فلِمَ لَمْ يَقُلْ : فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ، حتى تكمُلَ المبالغةُ ؟ فالجوابُ : أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ، فذكر التقبلَ، ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبولَ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ، بل على وفق الطبعِ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها، وهو وجه مناسبٌ.
والباء - في قوله :" بِقَبُولٍ " - فيها وجهانِ : أحدهما : أنها زائدة، أي : قبولاً، وعلى هذا فينتصب " قبولاً " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذْ لو جاء على " تَقَبُّل " لقيل : تَقَبُّلاً، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً.
وَقَبُول : من المصادر التي جاءت على " فَعُول " - بفتح الفاء - قال سيبويه : خمسة
١٧٧
مصادر جاءت على " فَعُول " قَبُول، وطَهُور، ووَقُود، ووَضُوء، وولُوع، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ، يقال : قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس، كالدخولِ والخروجِ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب : قبلت قَبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم، وأنشدوا :[السريع] ١٤٢٠ - قَدْ يُحْمَدث الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ
بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ


الصفحة التالية
Icon