إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ
وقيل : بل هو فَعُول بمعنى : مفعول، أي : محصور، ومثله ركوب بمعنى : مركوب، وحلوب بمعنى : محلوب.
والحصور : الذي يكتم سره.
قال جرير :[الكامل] ١٤٣٨ - وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا
حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٧
١٩٩
وهو البخيل - أيضاً - قال :[البسيط] ١٤٣٩ -.............................
لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئّارِ
وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع ؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن : الحصور : الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ، وهو - على هذا - بمعنى فاعل، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات.
قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له، فيكون بمعنى " مفعول " كأنه ممنوع من النساء.
واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة.
والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ، لا يجوز، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً.
فصل احتجَّ بعضُهم - بهذه الآية - على أن ترك النكاح أفضل ؛ لأنه - تعالى - مدحه بترك النكاح، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا ؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى :﴿أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام : ٩٠].
٢٠٠
وأمَّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان، والنسخ على خلاف الأصل.
وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله - " تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا " وقوله :" لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإسلامِ ".
وقوله عليه الصلاة والسلام :" النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأنبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ".
وقولهم : النسخ على خلاف الأصل.
قلنا : مسلم إذا لم يُعْلَم الناسخُ، وقد علمناه.
قوله :﴿وَنَبِيًّا﴾ اعلم أن السيادةَ إشارة إلى أمرين : أحدهما : القدرة على ضبط مصالح الخَلْق فيما يرجع إلى تعليمِ الدين.
والثاني : ضبط مصالحهم في تأديبهم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والحصور إشارة إلى الزهد التام، فلما اجتمعا حصلت النبوة ؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة.
قوله :﴿مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ صفة لقوله :﴿وَنَبِيّاً﴾ فهو في محل نصب، وفي معناه ثلاثة أوجهٍ : الأول : معناه من أولاد الصالحين.
الثاني : أنه خَيِّر - كما يقال للرجل الخَيِّر : إنه من الصالحين.
الثالث : أن صلاحه كان أتمَّ من صلاح سائر الأنبياء ؛ لقوله - عليه السلام - :" مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ عَصَى وَهَمّ بِمَعْصِيَةٍ إلاَّ يحيَى بن زكريا، فإنه لم يَعْصِ ولم يَهِمَّ بمعصيةٍ ".
فإن قيل : إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة ؟ فالجواب : أن سليمان - بعد حصول النبوة - قال :﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل : ١٩].
٢٠١
وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً.
والله أعلم.
قوله :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها - حينئذ - وجهان : أحدهما :" ﴿أَنَّى " لأنها بمعنى " كيف " أو بمعنى " مِنْ أيْنَ " ؟، و " لِي " - على هذا - تبيين.
والثاني : أن الخبر هو الجار والمجرور، و " كيف " منصوب على الظرف.
ويجوز أن تكون التامة، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين بـ " يَكُونُ "، أي : كيف يحدث لي غلام ؟ ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " غُلاَمٌ " ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له.
قوله :{وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ﴾
جملة حالية.
قال أهل المعاني :" كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ ".
فلهذا جاز أن نقول : بلغتُ الكِبَرَ، وجاز أن تقول : بلغَنِي الكِبَرُ، يدل عليه قولُ العربِ : تلقيت الحائط وتلقاني الحائط.
وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان.
وقيل : هو من المقلوب، كقوله :[البسيط] ١٤٤٠ - مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ
نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٧


الصفحة التالية
Icon