وقال تعالى :﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم : ١١].
ويكون بالكتابة، قال زهير :[الطويل] ١٤٥٧ - أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ
بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب، قال :[الكامل] ١٤٥٨ - فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا
خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
قيل : الوُحِيّ : جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً.
قال القرطبيُّ :" وأصل الوحي في اللغة : إعلام في خفاءٍ ".
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من غشارة، أو كتابة، أو غيرها، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً، كقوله تعالى :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل : ٦٨] وقال - في الشياطين - :﴿لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ [الأنعام : ١٢١] وقال :﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم : ١١]، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً.
قوله تعالى :﴿إِذْ يُلْقُونَ﴾ فيه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً.
والثاني - وإليه ذهب الفارسي - : أنه منصوب بـ " كُنْتَ ".
وهو منه عجيب ؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ، فكيف يعمل في الظرف، والظرف وعاء للأحداث ؟ والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية، وهو أن تكون " كان " تامة بمعنى : وما وُجدتَ في ذلك الوقت.
والضمير في " لَدَيْهِمْ " عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ - ؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم.
فإن قيل : لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها، وهو أمر مجوز ؟
٢١٨
فالجواب : أن هذا الكلامَ ونحوه، كقوله :﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾ [القصص : ٤٦] وقوله :﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا ااْ أَمْرَهُمْ﴾ [يوسف : ١٠٢] وقوله :﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا﴾ [هود : ٤٩] - وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جار مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك، ولم تُدارِس أحداً في العلم، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي.
ومعنى الآية : ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك، وذلك دليلٌ على نبوة محمد ﷺ لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك.
ثم قال :﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي : وما كنت يا محمد بحضرتهم ﴿إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ﴾.
أقلام : جمع قَلَم، وهو فَعَل بمعنى مفعول، أي : مَقْلُوم.
والقَلْمُ : القَطْع، ومثله : القبض بمعنى المقبوض، والنقض بمعنى المنقوض، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة.
وقيل له : قَلَم ؛ لأنه يُقْلَم، ومنه قلمت ظفري - أي : قطعته وسويته.
قال زهير :[الطويل] ١٤٥٩ - لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ
لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢١٣
وقيل : سمي القَلَمُ قَلَماً، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف.
فصل في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ : أحدها : التي يُكْتَب بها، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء، فالحقُّ معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، وهذا قول الأكثرين.
الثاني : قال الربيع : ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء.
الثالث : قال ابو مسلم : هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة، يكتبون عليها أسماءَهُمْ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر، قال تعالى :﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات : ١٤١].
وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً ؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً.
٢١٩