فـ " ماذا " بمعنى الذي ؛ لأنَّ ما قبله لا تعلّق له به.
الخامس : زعم الفَارِسِيُّ أَنَّ " ماذا " كله نكرة موصوفة، وأنشدَ :" دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ " أي : دَعِي شيئاَ معلوماً، وقد تقدَّم تأويله.
السَّادس : وهو أضعفها أَنْ تكون " ما " استفهاماً، و " ذا " زائدة، وجميع ما تقدَّم يُصْلُحُ أن يكون مثالاً له، ولكنَّ زيداة الأسماء ممنوعة أو قليلة جِداً.
إذا عُرِفَ ذلك فقوله " مَاذَا أَرَادَ اللهُ " يجوز فيه وجهان دون الأربعة الباقية : أحدهما : أن تكون " ما " استفهامية في محلِّ دفع بالابتداء، و " ذا " بمعنى " الذي "، و " أراد اللهُ " صِلَة، والعائِدُ محذوف لاستكمال شروطَه، تقديره :" أراد اللهُ " والموصول خَبَرُ " ما " الاستفهامية.
والثاني : أن تكون " مَاذَا " بمنزلةِ اسم واحدٍ في مَحَلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعده، تقديره : أيَّ شيء أراد اللهُ.
قال ابن كَيْسَان : وهو الجيد ومحل هذه الجملة النصب بالقول، و " مثلا " نصب على التمييز، قيل : وجاء على معنى التوكيد ؛ لأنه من حيث أُشير إليه بهذا عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ، فجاء التمييز بعده مؤكّدا للاسم الذي أُشيرَ إليه.
وقيل : نصب على الحالِ، واختلف في صاحبها، فقيل : اسم الإشارة، والعاملُ فيها معنى الإشارة.
وقيل : اسم اللهِ - تعالى - مُتَمَثِّلاً بذلك.
وقيل : على القطع وهو رأي الكوفيين، وَمَعْنَاه عندهم : أَنَّهُ كان أصله أن يتبع ما قبله، والأصلُ : بهذا المَثلِ، فلمَّا قَطِعَ عن التَّبعيَّةِ انتصب ؛ وعلى ذلك قول امرئ القيس :[الطويل] ٣٣٤ - سَوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثِ فُرُوعُهُ
وَعَالَيْنَ قِنْواناً مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٩
أصله : من البُسْرِ الأَحْمَرِ.
فَصْلٌ في معنى الإرادة واستقاقها و " الإرادةُ " لغةٌ طلبُ الشيءً مع المَيْلِ إليه، وقد تتجرّد للطلب، وهي التي تنسبُ إلى اللهِ - تعالى - وعَيْنُها واوٌ من رادَ يرودُ، طَلَبَ، فأصلُ " أراد " أَرْوَدَ " مثل : أقام، والمصدرُ الإرادةُ مثلُ الإقامةِ، وأصلُها : إرْوَاد فأُعِلَّتٍ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث.
فَصْلٌ في ماهية الإرادة و " الإرادةُ " ماهية يجدها العاقل من نفسه، ويُدْرِكُ بالتفرقةِ البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذّته، وإذا كان كلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف.
وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رُجْحَانَ أحد طرفي الجائز على الآخر، لا في الوقوع، بل في الإيقاع، واحترزنا بهذا القِيْدِ الأخير عن القدرةِ.
قوله :" ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾ الياء فيه للسَّببيَّة، وكذلك في " يهدي به "، وهاتان الجملتان لا محل لهما ؛ لأنَّهما كالبيان للجملتين المُصَدَّرَتِيْنِ بـ " أَمَّا "، وهما من كلام الله تعالى.
وقيل : في محلِّ نَصْبِ ؛ لأنهما صفتان لـ " مَثَلاً " أي : مَثَلاً يُفَرِّقُ النَّاس به إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتَدِين، وهما على هذا من كلام الكفَّار.
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من اسم الله، أي : مُضِلاَّ به كثيراً، وهادياً به [كثير].
وجَوَّزَ ابن عطية أن يكون جملة قوله :" يُضِلُّ بِعِ كَثِيراً " من كلام الكُفَّارِ، وجملةُ قوله :" وَيَهْدِي بِهِ كَثيراً " من كلام الباري تعالى.
وهذا ليس بظاهرٍ لأنّهُ إلباسٌ في التركيب.
والضميرُ في " به " عائدٌ على " ضَرْب " المضاف تقديراً إلى المَثَل، أي يضرب المثل، وقيل : الضميرُ الأوّل للتكذيب، والثاني للتصديق، ودَلَّ على ذلك قوة الكلام.
[وقُرِئ :" يُضَلُّ به كثيرٌ، ويُهِدَى به كثيرٌ، وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقُونَ " بالبناء للمفعول].
وقُرِئَ أيضاً :" يَضِلُّ كَثِيرٌ ويَهْدِي به كثيرٌ، وما يَضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقون " بالبناء للفاعل.
قال بعضهم :" وهي قراءة القَدَرِيَّة، وقد نَقَلَ ابن عطية عن أبي عمرو الدَّاني أنَّهَا قراءة المعتزلة ".
ثم قال : وابن أبي عبلةَ من ثِقَاتِ الشاميين " يعني قارئها، وفي الجملةِ فهي مخالفة لسواد المصحفِ.
فإنْ قيل : كيف وصف المهتدين هنا بالكثرة وهم قليلون ؛ لقوله :﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ [ص : ٢٤]، و ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ : ١٣] فالجوابُ أَنّهم، وإن كانوا قليلينَ في الصُّورة، فهم كثيرون في الحقيقةِ ؛ كقوله :[البسيط] ٣٣٥ - إِنَّ الكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلاَدِ وَإِنْ
قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلَّ وَإِنْ كَثُرُوا
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٩


الصفحة التالية
Icon