فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةٌ أَوْ تَبُوصُ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٩
أي : أمِنْ نَأْيِهَا.
والنصب وفيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من " مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ " بدل اشتمال.
والثاني : أنه مفعول من أجله، فقدره المَهْدوِيّ : كراهية أن يوصل، وقدره غيره : ألا يوصل.
والرفع على أنه خبر مبتدأ [مضمر] أي : هو أن يوصل، وهذا بعيداً جداً، وإن كان أبو البقاء ذكره.
واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل : صلة الأرْحَام، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها، وهو كقوله تعالى :﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا ااْ أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد : ٢٢] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي - ﷺ - من القرابة، وعلى هذا فالآية خاصة.
وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا، ولم يعملوا.
وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم، وتكذيب بعضهم.
وقيل : الإشارة إلى دين الله، وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله - تعالى - أمرهم أن يصلوا حَبْلَهُمْ بِحَبْلِ المؤمنين، فانقطعوا عن المؤمنين، واتصلوا بالكفار.
وقيل : إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن، وهم كانوا مشتغلين بذلك.
و " يُفْسِدُونَ " عطف على الصّلة أيضاً، و " في الأَرْضِ " متعلق به.
والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم.
وقيل : يعبدون غير الله، ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، ثم إنه - تعالى - أخبر أن من فعل هذه الأَفَاعيل خسر فقال :" أُولِئَكَ هُمُ الخَاسِرُونَ " كقوله :﴿وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة : ٥]، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر " الذِينَ يَنْقُضُونَ " إذا جعل مبتدأ.
وإن لم يجعل مبتدأ، فهي مستأنفة، فلا محل لها حينئذ، و " هم " زائدة، ويجوز أن يكون " هم " مبتدأ ثان، و " الخَاسِرُونَ " خبره، والثاني وخبره خبر الأول.
والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز.
والخسران : النقصان، كان في ميزان أو غيره ؛ قال جرير :[الرجز] ٣٤٢ - إِنَّ سَلِيطاً فِي الخَسَارِ إِنَّهْ
أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم.
قال الجوهري : وخسرت الشيء بالفتح - وأخسرته نقصته.
والخَسَار والخَسَارَة والخَيْسَرَى : الضَّلال والهلاك.
فقيل للهالك : خاسر ؛ لأنه خسر نفسه، وأهله يوم القيامة، ومنع منزله من الجَنَّة.
فصل قال القرطبي : في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الوفاء بالعهد والتزامه، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه، فلا يحل له نقضه، سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله - تعالى - من نقض عهده.
وقد قال :﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة : ١] وقد قال لنبيه عليه الصلاة والسلام :﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ﴾ [الأنفال : ٥٨] فنهاه عن الغَدْرِ، وذلك لا يكون إلاَّ بنقض العهد، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٩


الصفحة التالية
Icon