المقدس، حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلاً بطيشاً، قويًّا، فلقيه ملك، فظنَّ يعقوب أنه لِصّ، فعالجه ليصرعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه، فغمز الملك فَخْذَ يعقوب، ثم صعد إلى السماء، ويعقوب ينظر إليه، فهاج به عرق النسا، ولقي من ذلك بلاءً وشِدَّةً، وكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء : أي صياح، فحلف لئن شفاه الله أن لا يأكل عِرْقاً ولا طعاماً فيه عِرْق، فحرَّمه على نفسه، فكان بنوه - بعد ذلك - يَتَّبعون العروق، ويخرجونها من اللحم.
وروى جبير عن الضحاك عن ابن عباس : لما أصاب يعقوبَ عرقُ النسا، وصف له الأطباء أن يجتنب لُحْمانَ الإبل، فحرَّمها يعقوب على نفسه.
وقال الحسن : حرَّم يعقوب على نفسه لحم الجزور، تعبُّداً لله تعالى، فسأل ربه أن يُجِيز له ذلك، ومنعها الله على وَلَدِهِ.
فإن قيل : التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله - تعالى - وظاهر الآية يدل على أن إسرائيلَ حرم ذلك على نفسه، فكيف صار ذلك سَبَباً لحصول الحُرْمَة ؟ فالجواب من وجوه : الأول : أنه لا يبعد أن الإنسانَ إذا حرَّم شيئاً على نفسه، فإن الله يُحَرِّمُه عليه كما أن الإنسانَ يحرم امرأته بالطلاق، ويحرم جاريته بالعِتْق، فكذلك يجوز أن يقول الله تعالى : إن حرَّمْتَ شيئاً على نفسك فأنا - أيضاً - أحَرِّمُه عليك.
الثاني : أنه ﷺ ربما اجتهد، فأدَّى اجتهاده إلى التحريم، فقال بتحريمه، والاجتهاد جائز من الأنبياء ؛ لعموم قوله :﴿فَاعْتَبِرُواْ يا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر : ٢]، ولقوله :﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ [النساء : ٨٣]، ولقوله - لمحمد ﷺ - :﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة : ٤٣]، فدل على أنه كان بالاجتهاد.
وقوله تعالى :﴿إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ يدل على أنه إنما حرَّمه على نفسه بالاجتهاد ؛ إذْ لو كان بالنصِّ لقال : إلاَّ ما حرَّمه الله على إسرائيل.
الثالث : يُحْتَمَل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا، فكما يجب علينا الوفاةُ بالنذر - وهو بإيجاب العبد على نفسه - كان يجب في شرعه الوفاءُ بالتحريم.
الرابع : قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلةً إلى تلك الانواع كُلِّها، فامتنع من أكلها ؛ قَهْراً للنَّفْس، وطَلَباً لمرضاة الله، كما يفعله كثير من الزُّهَّادِ.
٣٩٢
فصل ترجم ابنُ ماجه في سننه " دواء عرقِ النساء " وروى بسنده عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :" شِفاءُ عِرْقِ النِّسَا ألْيَةُ شَاةٍ، [أعرابية] تُذابُ، ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلاثَةَ أجْزَاءٍ، ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيق في كُلِّ يَوْمٍ جُزْءًا ".
وفي رواية عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ - في عرق النسا - :" تُؤخَذُ ألْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ - لا صَغِيرٍ وَلاَ كَبِيرٍ - فَتُقَطَّع صِغَاراً، فتُخْرَجُ إهَالتُه، فتقسَّم ثلاثة أقسام، قِسْمٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ " قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة، فبرئوا - بإذن الله عز وجل -، وروى شعبة قال : حدثني شيخ - في زمن الحجَّاج بن يوسف - في عرق النسا، يمسح على ذلك الموضع، ويقول أقسم لك بالله الأعلى، لئن لم تَنْتَهِ لأكوَينَّك بنارٍ، أو لأحْلِقَنَّكَ بمُوسى.
قال شعبة : قد جرَّبته، لقوله : وتمسح على ذلك الموضع.
فصل دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء ؛ ولأنه إذا شُرع الاجتهاد لغيرهم، فهم أولى ؛ لأنهم أكمل من غيرهم، ومنع بعضُهم ذلك ؛ لأنهم متمكنون من الوحي، وقال تعالى :﴿ يا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم : ١].
فصل ظاهر الآية يدل على أنَّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه، قد حرَّمه الله على بني إسرائيلَ ؛ لقوله تعالى :﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى إِسْرَائِيلَ﴾، فحكم بحلِّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيلَ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، فوجب - بحكم الاستثناء - أن يكون ذلك حراماً عليهمز فصل ومعنى قوله :﴿مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ أي : قبل نزول التوراة كان حلاًّ لبني إسرائيل كلُّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، أما بعد نزول التوراة، فلم يَبْقَ كذلك بل حرم الله - تعالى - عليهم أنواعاً كثيرة.
٣٩٣