وسميت مكة - من قولهم : مَكَكْتُ المخ من العظم، إذا تستقصيته ولم تترك فيه شيئاً.
ومنه : مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً، ورُويَ أنه قال :" لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ ".
وقيل : لأنها تَمُكُّ الذنوبَ، أي : تُزيلها كلَّها.
قال ابن الأنباري : وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها، وقلة خِصْبها، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم، إذا لم تترك فيه شيئاً.
وقيل : لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ، أي : استقصاه بالهلاك.
وقيل : سُمِّيت بذلك ؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض، كما يقال : امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع.
وقال الخليل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم.
وقيل : لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة، والمكوك : كأس يشرب به، ويُكال به - كـ " الصُّوَاع ".
قال القفال : لها أسماء كثيرة، مكة، وبكة، وأمّ رُحْم، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد : لأن الناس يتراحمون فيها، ويتوادَعُون - والباسَّة ؛ قال الماوَرْدِي : لأنها تبس من الْحَد فيها، أي : تُحَطِّمه وتُهْلكه، قال تعالى :﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً﴾ [الواقعة : ٥].
ويروى : الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع : ويقال : الناسَّة - بالنون -.
قال الماوَرْدِيُّ : لأنها تنس من ألحد فيها - أي : تطرده وتَنْفِيه.
ونقل الجوهري - عن الأصمعي - : النَّسّ : اليبس، يُقال : جاءنا بخُبْزَة ناسَّة، ومنه قيل لمكةَ : الناسَّة ؛ لقلة مائها.
والرأس، والعرش، والقادس، و المقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ، والبلد، والحاطمة ؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها، وأم القرى ؛ لأنها أصل كل بلدة، ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض.
فصل الأوَّلُ : هو الفرد السابق، فإذا قال : أوَّلُ عبد أشتريه فهو حُرّ، فلو اشترى عبدَيْن في المرة الأولى لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما ؛ لأن الأول هو الفرد، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق ؛ لأن شرط الأوَّليَّة قد عُدِمَ.
٣٩٨
إذا عُرِفَ هذا، فقوله :﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ لا يدل على أنه أوَّلُ بَيْتٍ خلقه الله تعالى، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض، بل يدل على أنه أول بيت وُضِعَ للناس، فكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس، وكونه مشتركاً فيه بين كل الناس، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعاً للطاعات، وقِبْلَةً للخلق، فدلَّت الآية على أن هذا البيت وَضَعه الله - تعالى - للطاعات والعبادات، فيدخل فيه كونه قِبْلَةً للصلوات، وموضِعاً للحجِّ.
فإن قيل : كونه أولاً في هذا الوَصْف يقتضي أن يكون له ثانٍ، فهذا يقتضي أن يكون بيتُ المقدس يشاركه في هذا الصفات، التي منها وجوبُ حَجِّه، ومعلوم أنه ليس كذلك.
فالجواب من وجهين : الأول : أن لفظ " الأوًّل " - في اللغة - اسم للشيء الذي يُوجَد ابتداءً، سواء حصل بعده شيء آخرُ، أو لم يحصل، يقال : هذا أول قدومي مكة، وهذا أول مال أصَبْتُه، ولو قال : أول عبدٍ أملكه فهو حُرٌّ، فملك عبداً عُتِق - وإن لم يملك بعده آخر - فكذا هنا.
الثاني : أن المراد منه : أول بيت وُضِع لطاعات الناس وعباداتهم، وبيت المقدس يُشاركه في كونه موضوعاً للطاعاتِ والعباداتِ، لقوله ﷺ :" لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : المَسْجِد الْحَرَامِ، والمسْجِدِ الأقْصَى، ومَسْجِدِي هَذَا "، وهذا القدر يكفي في صدق كَوْنِ الكعبةِ أول بيتٍ وضع للناس، فأما أن يكون بيتُ المقدسِ مشاركاً له في جميع الأمور، حتى في وجوبِ الحَجِّ، فهذا غير لازم.
فصل قوله تعالى :﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ﴾ يحتمل أن يكون المراد : أنه أول في الموضع والبناء، وأن يكون أولاً في كونه مباركاً وهُدًى، وفيه قولان للمفسرين.
فعلى الأول فيه أقوال : أحدها : روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال : خلق الله البيت قبل أن يخلقَ شيئاً من الأرضين.
وفي رواية :" خَلَقَ اللهُ مَوْضِعَ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُق شَيْئاً مِنَ الأرضِينَ بِألْفي سَنَةٍ، وَإنَّ قَوَاعِدَه لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى ".
وروى النووي - في مناسكه - عن الأزْرَقِي - في كتاب مكة - عن مجاهد قال : إن هذا البيتَ أحد أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيتٌ، وفي كل أرض بيت، بعضهن مقابل بعض.
وروى أيضاً عن علي بن الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - عن
٣٩٩


الصفحة التالية
Icon