وقوله :" وَمَا كُنْتُمْ تَكْتَمونَ " عطف على " ما " الأول بحسب ما تكون عليه من الإعراب.
روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير : أن قوله :" ما تُبْدُون " أراد به قولهم :" أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا " وبقوله :" وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون " أراد به ما أسر " إبليس " في نفسه من الكبر وألاَّ يسجد.
قال " ابن عطية " : وجاء " تكتمون " للجماعة، والكاتم واحدٌ في هذا القول على تجوّز العرب واتِّسَاعها، كما يقال لقوم قد جَنَى مهم واحد : أنتم فعلتم كذا، أي : منكم فاعله، وهذا مع قَصْد تعنيف، ومنه قوله :﴿إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ﴾ [الحجرات : ٤] وإنما ناداه منهم عُيَيْنَةُ.
وقيل :" إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ " من الأمور الغائبة، والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها.
وقيل إنه - تعالى - لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً قالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه، فهذا الذي كَتَمُوا، ويجوز أن يكون هذا القول سرًّا أسروه بينهم، فأبداه بعضهم لبعض، وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان.
وقالت طائفة : الإبْدَاء والكَتْم المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٣
العامل في " إذ " محذوف دلّ عليه قوله :" فَسَجَدُوا " تقديره : أطاعوا وانقادوا، فسجدوا ؛ لأن السجود ناشئ عن الانقياد.
وقيل : العامل " اذكر " مقدراً.
وقيل : زائدة وقد تقدّم ضعف هذين القولين.
وقال " ابن عطية " :" وإذ قلنا " معطوف على " إذ " المتقدمة، ولا يصحّ هذا لاختلاف الوقتين.
وقيل :" إذ " بدل من " إذ " الولى، ولا يصحّ لما تقدّم، ولتوسّط حرف العَطْف، وجملة " قلنا " في محل خَفْضٍ بالظرف، ومنه التفات من الغيبة إلى التكلُّم للعظمة، و " اللام " للتَّبليغ كنظائرها.
والشمهور جَرّ تاء " الملائكة " بالحَرْف "، وقرأ " أبو جعفر " بالضم إتباعاً لضمة " الجيم " ولم يعتد بالسَّاكن، وغلّطه الزَّجاج وخطأه الفارسي، وشبهه بعضهم بقوله تعالى :﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ﴾ [يوسف : ٣١] بضم تاء التأنيث، وليس بصحيح، لأن تلك حركة التقاء الساكنين، وهذه حركة إعراب، فلا يتلاعب بها، والمقصود هناك يحصل بأي حركة كانت.
وقال الزمخشري : لا يجوز استهلاك الحركة استهلاك الإعرابية إلاّ في لغة ضعيفة كقراءة ﴿الْحَمْدُ للَّهِ﴾ [الفاتحة : ٢] يعني بكسر الدال.
قال الشيخ " شهاب الدين " : وهذا أكثر شذوذاً، وأضعف من ذاك مع ما في ذاك من الضَّعف المتقدم ؛ لأن - هناك - فاصلاً، وإن كان ساكناً.
وقال " أبو البقاء " : وهي قراءة ضعيفة جدًّا، وأحسن ما تحمل عليه أن يكون الرَّاوي لم يضبط عن [القارئ] أشار إلَى الضَّم تنبيهاً على أنّ الهمزة المحذوفة مضمومةٌ في الابتداء، فلم يدرك الراوي هذه الإشارة، وقيل : إنه نَوَى الوَقْفَ على " التَّاء " ساكنة، ثم حركها بالضم إتباعاً لحركة الجيم، وهذا من إجراء الوصل مجرى الوَقْفِ.
ومثله ما روي عن امرأة رأت رجلاً مع نساء، فقالت :" أفي السَّوتَنْتُنَّهْ " - نوت الوقف على " سوءة "، فسكنت التاء، ثم ألقت عليها حركة همزة " أنتن " فعلى هذا تكون هذه حركة السَّاكنين، وحينئذ تكون كقوله :" قَالَتُ : أخْرُجْ " وبابه، وإنما أكثر الناس توجيه هذه القراءة لجلالة قارئها أبي جعفر يزيد بن القَعْقَاع شيخ نافع شيخ أهل " المدينة " وترجمتها مشهورة.
و " اسجدوا " في محل نصب بالقول، و " اللام " في " لآدم " الظَّاهر أنها متعلّقة بـ " اسجدوا "، ومعناها التعليل، أي : لأجله.
وقيل : بمعنى " إلى " أي : إلى [جهته له] جعله قبلة لهم، والسجود لله.
وقيل : بمعنى مع، لأنه كان إمامهم كذا نقل.
وقيل : اللاَّم للبيان فتتعلّق بمحذوف، ولا حاجة إلى ذلك.
و " فسجدوا " الفاء للتعقيب، والتقدير : فسجدوا له، فحذف الجار للعلم به، والسُّجود لغة : التذلَّل والخضوع، وغايته وضع الجَبْهَةِ على الأرض، وقال " ابن السكيت " :" هو الميل "، قال :" زيد الخيل " :[الطويل] ٣٧٨ - بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ
تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٣
يريد : أن الحوافر تطأ الأرض، فجعل بأثر الأُكْمِ للحوافر سجوداً ؛ وقال آخر :[المتقارب] ٣٧٩ -.........................
سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِهَا
وفرق بعضهم بين " سجد "، و " أسجد " فـ " سجد " : وضع جبهته، وأسجد : أَمَال رأسه وَطَأْطَأْ ؛ قال الشاعر :[المتقارب] ٣٨٠ - فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسَجَدَتْ
سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِها
وقال آخر :[الطويل] ٣٨١ وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا
................................


الصفحة التالية
Icon