أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ وَأَعْرَفَ النَّاسِ بالقٌرْآنِ وَالسُّنَنِ والجواب عن الثاني : لا نسلم أن التكرُّم حصل بمجرد ذلك السُّجود، بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر.
والقول الثاني : أن السجدة كان لآدم تعظيماً له وتحيَّةً له كالسَّلام مهم عليه، وقد كانت الأمم السَّالفة تفعل ذلك.
قال قتادة : قوله :﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَ﴾ [يوسف : ١٠٠] كانت تحيّة الناس يومئذ.
الثَّالث : أنَّ السجود في أَصْلِ اللُّغة، هو الانقياد والخضوع، ومنه قوله تعالى :﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن : ٦].
واعلم أن القول الأوّل ضعيف، لأن المقصود تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام، وجعله مجرّد القِبْلَةِ لا يفيد تعظيم حاله.
والقول الثالث : ضعيف أيضاً ؛ لأن السجود في عرف الشرع عبارة عن وضع الجَبْهَةِ على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك ؛ لأن الأصل عدم التغيير.
فإن قيل : السجود عِبَادَةٌ، والعبادة لغير الله لا تجوز.
فالجواب : لا نسلم عِبَادَةٌ، والعبادة لغير الله لا تجوز.
فالجواب : لا نسلم أنه عِبَادَةٌ ؛ لأن الفعل قد يصير بالمُواضعة مفيداً كالقول، كقيام أحدنا للغير يُفِيدُ من الإعظام ما يفيده القول، وما ذاك إلا للعادة، وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأَرْضِ وإلصاقه الجَبينَ بها مفيداً ضرباً من العظيم، وإن لم يكن ذلك عِبَادَة، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبّد الله النلائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته.
فصل في بيان أن الأنبياء أفضل من الملائكة قال أكثر أهل السُّنة : الأنبياء أفضل من الملائكة.
وقالت المعتزلة : الملائكة أَفْضَلُ من الأنبياء، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقِلاني [وأبي عبد الله الحليميّ].
وحجّة المعتزلة أمور : أحدها : قوله تعالى :﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأنبياء : ١٩] والمراد من هذه العِنْدِيَّة القرب، والشرف، وهذا حاصل لهم لا لغيرهم.
ولقائل أن يقول : إنه - تعالى - أثبت هذه الصّفة في الآخرة لآحاد المؤمنين في قوله :﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ [القمر : ٥٥].
وأما في الدنيا فقال عليه الصَّلاة والسلام يقول الله سبحانه :" أَنا مَعَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لأَجْلِي ".
وهذا أكثر إشعاراً بالتعظيم ؛ لأن كون الله - تعالى - عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله.
وثانيها : قالوا : عبادات الملائكة أشَقّ من عبادات البشر، فيكونون أكثر ثواباً من عبادات البشر، فإن الملائكة سُكّان السماوات، وهي جَنَّات، وهم آمنون من المَرضِ والفقر، ثم إنهم مع استكمال أسباب النّعم لهم خاشعون وجِلُونَ كأنهم مَسْجُونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنات، بل يقبلون على الطَّاعة الشاقة، ولا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المُتَطَاولة، ويؤيّده قصّة آدم - عليه الصّلاة والسلام - فإنه أطلق له الأكل في جميع مواضع الجنة، ثم إنه منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه.
وثالثها : أن انتقال المكلّف من نوع عِبَادَةٍ إلى نوع آخر كالانتقال من بُسْتَان إلى بستان، أما الإقامة على نَوْعٍ واحدٍ، فإنها تورث المَشَقّة والمَلاَلَة، والملائكة كلّ واحد منهم مُوَاظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره، فكانت عبادتهم أَشَقّ، فيكون أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام :" أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا " أي : أَشَقُّهَا، وقوله لعائشة :" إنَّمَا أَجْرُكِ على قَدْرِ نَصْبِكِ ".
ولقائل : أن يقول : في الوَجْه الأول لا نسلّم أن عبادة الملائكة أشقّ.
أما قولهم : السماوات جنات.
قلنا : نسلم، ولم قلتم بأن العبادة في المَوَاضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرَّديئة ؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعةٌ على البشر، ومع هذا يرضون بقضاء الله، ولا تغيرهم تلك المِحَنُ عن المُوَاظبة على عبوديته، وهذا أعظم في العبودية.
وأما قولهم : المُوَاظبة على نَوْعٍ واحدٍ من العبادة أشقّ.
قلنا : لما اعتادوا نوعاً واحداً صاروا كالمَجْبُورين الذين لا يقدرون على خِلاَفِهِ ؛ لأنَّ العادة طبيعة خامسة، ولذلك قال ﷺ :" أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ كان يصوم يوماً ويُفْطر يوماً ".
ورابعها : قالوا : عبادات المَلاَئكة أَدْوَم ؛ لأن أَعمارهم أطول، فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام :" أَفْضَلُ العُبَّاد من طل عمره، وحَسُنَ عمله ".
ولقائل أن يقول : إن نوحاً ولقمان والخَضِر - عليهم الصَّلاة والسلام - كانوا أطول عمراً من محمد - عليه الصلاة والسلام - فوجب أن يكونوا أفضل منه، وذلك باطل بالاتفاق.
وخامسها : أنهم أسبق في كل العِبَادِاتِ فيكونون أفضل لقوله تعالى :﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَـائِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة : ١٠، ١١] ولقوله عليه الصلاة والسلام :" من سَنَّ سُنَّةٌ