سورة النساء
قال بعض المفسرين :" ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على النساء والأيتام، ذكر فيها أحكاماً كثيرة، وبذلك ختمها، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطِّبَاع، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير ".
فصل روى الواحدي عن ابن عباس في قوله :﴿ يا أيها النَّاسُ﴾ أن هذا الخطاب لأهل مكة.
يا أيها النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين، وهذا هو الأصحُّ ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق، ولأنه علّل الأمر بالاتِّقَاءِ لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين.
وأيضاً فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة، بل هو عام، وَإذَا كان لفظ الناس عاماً، والمر بالتقوى عاماً، وعلة هذا التكليف عامةً، فلا وجه للتخصيص، وحجة ابن عباس أن قوله :﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [النساء : ١] مختص بالعرب ؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم، فيقولون :" أسألك بالله وبالرحم، أنشدك الله والرحم "، وإذا كان كذلك، كان قوله :﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [النساء : ١]، مختصاً بالعرب، فيكون قوله :﴿ يا أيها النَّاسُ﴾ مختصاً بهم، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد.
ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية.
فصل اعلم أنه تعالى جعل الافتتاح لسورتين في القرآن : أحدهما : هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته.
١٣٩
والثانية : سورة الحج وهي الرابعة أيضاً من النصف الثاني من القرآن وعلَّلَ الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد.
فَجَعَلَ صدر هاتين السورتين دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد، وهذا سر عظيم.
﴿مِّن نَّفْسٍ﴾ متعلق بـ " خلقكم " فهو في محل نصب، و " من " لابتداء الغاية، وكذلك " منها زوجها وبتَّ منهما " والجمهور على واحدة بتاء التأنيث، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [هاهنا] آدم عليه السلام، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى :﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ [الكهف : ٧٤].
وابن أبي عبلة واحدٍ من غير [تاء] تأنيث وله وجهان : أحدهما : مراعاة المعنى ؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام.
والثاني : أن النفس تذكر وتؤنث.
وعليه قوله :[الوافر] ١٧٢٦ - ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ
لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٣٩
قوله :﴿وَخَلَقَ﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه عطفٌ على معنى " واحدة " لما فيه من معنى الفعل، كأنه قيل :" من نفس وحدت " أي : انفردت، يُقال :" رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة " انفرد.
الثاني : انه عَطْفٌ على محذوف.
قال الزَّمَخْشرِيُّ :" كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها " بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها، وَإنَّما حمل الزمخشري رحمه الله تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي ؛ لأن خلق حواء - وهي المعبر عنها بالزوج - قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح.
الثالث : أنه عطف على " خَلْقَكُمْ "، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها،
١٤٠


الصفحة التالية
Icon