فإن قيل : لم خَصَّ لرّجالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء ؟ ففيه جوابان : أحدهما : أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره : ونساءً كثيرة.
والثاني : أنَّ الرِّجال لشهرتهم [وبروزهم] يُنَاسِبُهم ذلك بخلاف النِّسَاء، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء.
قوله :﴿تَسَآءَلُونَ﴾ قرأ الكوفيون " تَسَاءَلُونَ " بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل :" تتساءلون " به، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ : هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين ؛ لأن مقاربتها في الهمس، ولهذا تُبْدَلُ من السين، قالوا :" ست " والأصل " سِدْسٌ " وقرأ عبد الله :" تَسْاَلُون " من سأل الثلاثي، وقُرِئَ " تَسَلون " بنقل حركة الهمزة على السين، و " تَسَاءلون " على التفاعل فيه وجهان : أحدهما : المشاركة في السؤال.
والثاني : أنه بمعنى فَعَلَ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله.
قال أبُو البَقَاءِ :" وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول ؛ لأن المعنى :" تتخالفون : يعني أن الأصل تعدية " تسألون " إلى الضمير بنفسه، فلما ضُمِّن " تتخلفون " عُدِّي تَعْدِيَتَه ".
قوله :﴿وَالأَرْحَامَ﴾ الجمهور نصبوا الميم، وفيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة، أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها، وقَدَّرَ بعضهم مضافً أي : قَطْعَ الأرحام.
ويقال : إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ علا العام، وذلك أن معنى اتقوا
١٤٣
الله ؛ اتقوا مخالَفَتَه، وقَطْعُ لأرحام مندرج فيه، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج.
قال الواحدي : ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء، أي : والأرحام احفظوها وصلوها كقولك : الأسدَ الأسدَ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطعيةِ الرحم ووجوب صلته.
والثاني : أنه معطوف على محل المجرور في " به "، نحو : مررت بزيد وعمراً، ولمَّ لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع، وه يؤيده قراءة عبد الله " وبالأرحام ".
وقال أبو البقاء : تُعَظِّمُونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له "، وقرأ حمزة " والأرحامِ " بالجر، قال القفال : وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره، وفيها قولان.
أحدهما : أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في " به " من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاج كل فريق
١٤٤
في قوله تعالى :﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة : ٢١٧] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة، كالزجاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم، قال :﴿وَالأَرْحَامَ﴾ بخفض [الأرحام] هو كقولهم :" أسألك باللَّهِ والرحمِ " قال :" وهذا قبيح ؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على الضمير، وهو لا يجوز.
قال ابن عيس : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على الضمير المرفوع، فلا يجوز أن يقال :" اذهب وزيد " و " ذهبت وزيدا "، بل يقولون : اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد، قال تعالى :﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ﴾ [المائدة : ٢٤] مع أن الضمير المرفوع قد ينفصل، فإذا لم يجز عطف المظهر على الضمير المرفوع مع أنه أقوى من الضمير المجرور، بسبب أنه قد ينفصل ؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على الضمير المجرور، مع أنه [لا] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى.
والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به، وجوابُ القسمِ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ وضُعِّفَ هذا بوجهين : أحدهما : أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في بـ " الأرحام " يمنعان من ذلكَ، والأصلُ توافق القراءات.
والثاني : أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك.
١٤٥


الصفحة التالية
Icon