فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير.
فإن قيل : كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى ؟ واليتيم فعيل : فيجمع على فعلى، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى ؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فيه وجهان.
أحدهما : أن يقال : إن جمع اليتيم، يَتْامَى، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارِى.
والثاني : أن نقول : جمع اليتيم يتائم ؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو " صاحب " و " فارس " ثم تنقلب " اليتائم " " يتامى ".
قال القفّال :" ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف ".
فإن قيل : إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيماً، فكيف قال :﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾.
فالجوابُ من وجهين : الأول : أن يقال : المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا، وسمَّاهم لله - تعلى - يتامى، إما على أصل اللغة، وإما لقرب عهدهم باليُتْم، وإن كان قد زال من هذا الوقت
١٥١
كقوله تعالى :﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الأعراف : ١٢٠].
أي : الذين كانوا سحرة قبل السُّجود، وأيضاً سمَّى اللهُ تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله :﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ [الطلاق : ٢] والمعنى مقاربة الأجل، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى :﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ﴾ [النساء : ٦] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ.
الوجه الثاني : أن يقال : المراد باليتامى الصِّغار، وعلى هذا ففي الآية وجهان : أحدهما : أن قوله " وَآتَوَا " أمر، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى : أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم.
فتزول المناقضة.
والثاني : أنَّ المُرَاد : وآتوا اليتامى حال كونهم يَتَامَى ما يحتاجونه مِنْ نفقتهم وكسوتهم، والفائدة فيه : أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره، فباح اللهُ - تعالى - ذلك، وفيه إشكال وهو : أنه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم، والآية تَدُلُّ على إيتائهم كل مالهم.
فصل نقل أبو بكر الرازيُّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى، فَشَكَوا ذلك إلى النبي ﷺ فنزل اللهُ تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة : ٢٢٠].
فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
قال المفسرون : الصحيح أنها " نزلت في رجل من غطفان، كان معه كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمُّهُ فترافعا إلى النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فلما علمها العَمُّ قال : أطَعْنَا لرَّسُولَ، نعوذ بالله من الحُوب الكبير، ودفع إليه ماله فقال النبي ﷺ " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيطعْ رَبَّهُ هكذا فإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ " أي : جَنَّتهُ، فلما قبض الصَّبِيُّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى لله عليه وسلم " ثَبَتَ الأجْرُ وَبَقِيَ الوِزْرُ ".
قال القرطبيُّ : وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين :
١٥٢
أحدهما : إجراء الطَّعام والكسوة ما دامت الولاية، إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير.
والثاني : الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيماً مجازاً بمعنى : الَّذي كان يتيماً استصحاباً للاسم، كقوله ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الشعراء : ٤٦] أي الذين كانوا سحرة، وكان يقال للنبي ﷺ " يتيم أبي طالب " فإذا تحقَّقَ الوليّ رشده حَرُمَ عليه إمساك ماله عنه.
قال أبو حنيفة : إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، أعطي ماله على كل حال ؛ لأنَّه يصير جداً.
قوله :﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ﴾ وقد تقدَّم في البقرة قوله :﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة : ٥٩] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك، والمنصوب هو الحاصل، وتفعل هنا بمعنى استفعل، وهو كثير، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة :[الطويل] ١٧٣٣ - فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا
عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٥٠