وإذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص،  وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإجمال كان رفع الإجمال أولى ؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص،  والمجملُ لا يكون حجة أصلاً.
 قوله " مَثْنَى " منصوب على الحال من " طَابَ " وجعله أبو البَقاء حالاً من " النساء " فأجاز هو وابن عطية أن يكون بدلاً من " ما " وهذان الوجهان [ضعيفان].
 أمَّا الأول : فلأنَّ الْمُحْدَّث عنه إنما هو الموصول وأتى بقوله ﴿النِّسَآءِ﴾ كالتبيين.
 وأما الثاني : فلأنَّ البدل على نِيَّةِ تكرار العامل،  وقد تقدم أن هذه الألفاظ لا تباشر العوامل.
 واعلم أن هذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف،  وهل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع ؟ قولان : وقول الكوفيين وأبي إسحاق : جوازه.
 والمسموع [من ذلك] أحد عشر لفظاً : أُحاد،  وَمَوْحَد،  وثُنَاء،  وَمَثْنَى،  وَثُلاَثَ،  وَمَثْلَث،  ورُباع،  وَمَرْبَع،  ولم يسمع خُماس ومَخْمس،  وعَشار ومَعْشَر.
 واختلفوا أيضاً في سبب منع الصرف فيها على أربعة مذاهب : أحدها : مذهب سيبويه،  وهو أنها مُنِعَتْ من الصرف للعدلِ والوصفِ أمَّا الوصف فظاهر،  وَأَمَّا العدل فلكونها معدولة من صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر.
 فإذا قلت : جاء القوم أحاد أو مَوْحَدَ أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ،  كان بمنزلة قولك : جاءوا واحداً واحداً وثلاثةً ثَلاثَةً،  ولا يُرادُ بالمعدولِ عنه التوكيد،  إنما يُرادُ به تكرار العدد لقولهم : علمته الحساب باباً باباً.
 والثاني : مذهب الفراء،  وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام ولذلك يمتنع
١٦١
إضافتها عنده لتقدير الألف واللام،  وامتنع ظهور الألف واللام عنده لأنها في نِيَّة الإضافة.
 الثالث : مذهب أبي إسحاق : وهو عدلها عن عدد مكرر وعدلها عن التأنيث.
 والرابع : نَقَلَهُ الأخفش عن بعضهم،  أنه تكرار العدل،  وذلك أنه عَدَلَ عن لفظ اثنين اثنين،  وعن معناه ؛ لأنه قد لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد في المعدولة بقوله : جاءني اثنان وثلاثة،  ولا تقول :" جاءني مَثْنَى وثلاث " حتى يتقدم قبله جمع ؛ لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل،  فإذا قلت :" جَاءَ الْقَوْمُ مَثْنَى "،  أَفَادَ أنَّ مجيئهم وقع من اثنين اثنين،  بخلاف غير المعدولة،  فَإنَّها تفيد الإخبار عن مقدارِ المعدودِ دُونَ غيره ؛ فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العِلَّةُ مَقَامَ العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين - انتهى.
 وقال الزمخشري :" إنَّمَا منعت الصرف لما فيها من العَدْلَيْن ؛ عدلها من صيغتها،  وعدلها عن تكررها،  وهن نكرات يُعَرَّفْنَ بلام التعريف،  يقال : فلان ينكح المثْنَى والثلاث ".
 قال أبو حيان :" ما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا اعلم أحداً قاله،  بل المذهب فيه أربعة " ذكرها كما تقدم،  وقد يقال : إنَّ هذا هو المذهب الرابع وعبَّر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكررها وناقشه [أبو حيان] أيضاً في مثاله بقوله : ينكح المثنى من وجهين : أحدهما : دخول " أل " عليها،  قال :" وهذا لم يذهب إليه أحد بَلْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ في لسان العرب إلاَّ نكرات "،  الثاني : أنه أولاها العوامل،  ولا تلي العوامل بل يتقدمها شيء يلي العوامل،  ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام :" صلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة أو صفات نحو قوله تعالى :﴿أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر : ١] وقوله :[الطويل]
١٦٢
١٧٣٨ -...........................
ذِئَابٌ تَبَغَّى النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدُ
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٥٦
وقد وقعت إضافتها قليلاً كقوله :[الطويل] ١٧٣٩ -........................
بِمَثْنَى الزُّقَاقِ المُتْرَعَاتِ وَبِالجُزُرْ
وقد استدلَّ بعضهم على إيلائها العَوَامل على قِلَّةٍ بقوله :[الوافر] ١٧٤٠ - ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ
أذارُ سُدَاس ألاَّ يَسْتَقِيمَا
ويمكن تأويله على حذف المفعول لفهم المعنى تقديره : ضربتهم خماس.
 ومن أحكام هذه الألفاظ ألا تؤنث بالتاءِ،  لا تقول :" مثناة " ولا " ثُلاثة " بل تَجْرِي على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً.
 وقرأ النخعي وابن وثّاب " ورُبَعَ " من غير ألف،  وزاد الزمخشري عن النخعي :" وثُلَثَ " أيضاً،  وغيره عنه " ثُنَى " مقصوراً من " ثُناء " حَذَفوا الألف من ذلك كله تحقيقاً،  كما حذفها الآخر في قوله :[الرجز] ١٧٤١ -.....................
يريد بارداً وَصلَّياناً بَرِدَا
فصل معنى قوله :" مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ " أي اثنين وثلاثاً وأربعاً أربعاً،  والواو بمعنى " أو " للتخيير كقوله تعالى :﴿أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ﴾ [سبأ : ٤٦] وقوله :{أُوْلِي
١٦٣