لا بمجرد الصورة.
ولقائل : أن يقول : قول المرأة :﴿فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ [يوسف : ٣٢] كالصريح في أن مراد النِّسَاء بقولهن :﴿إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف : ٣١] تعظيم لحسن يُوسف وجماله لا في السَِّيرة ؛ لأن ظهور عُذْرِهَا في شدّة عشقها، إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجَمَال لا بسبب فرط زُهْده وورعه، فإن ذلك لا يُنَاسب شدّة عشقها.
سلمنا أن المراد تشبيه يوسف - عليه الصلاة والسلام - بالمَلَكِ في حسن السِّيرة، فلم قلتم : يجب أن يكون أقل ثواباً من الملائكة ؟ الحادي عشر : قوله تعالى :﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء : ٧٠]، ومخلوقات الله - تعالى - إما المكلفون، أو من عداهم، ولا شك أن المكلفين أفضلُ من غيره، فالمكلّفون أربعة أنواع : الملائكة، والإنس، والجنّ، والشياطين، ولا شَكّ أن الإنس أفضل من الجنّ والشياطين، فلو كان البشر أفضل من الملائكة لزم أن يكون البشر أفضل من كلّ المخلوقات، وحينئذ لا يبقى لقوله :" وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى جَمِيْعِ مَنْ خَلَقْنَا "، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر.
ولقائل أن يقول : هذا تمسُّك بدليل الخطاب ؛ لأن التصريح بأنهم أفضل من كثيرٍ من المَخْلُوقات لا يدلّ على أنه ليس أَفْضل من الباقي ألا بواسطة دليل الخطاب.
وأيضاً فهب أن جنس الملائكة أفضل من [جنس بني آدم، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من] المجموع الثاني [أن يكون كُلّ واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني]، فإنا إذا قدرنا عشرة من العَبيدِ كلّ واحد منهم يساوي مائة دينار، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية كل واحد منهم ديناراً، فالمجموع الأول أفضل من آحاد المجموع الأول فكذا ها هنا.
الثاني عشر : قوله تعالى :﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار : ١٠، ١١] فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم، وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين : الأوّل : أنه - تعالى - جعلهم حَفَظَةً، والحافظ للمكلّف عن المعصية يكون أبعد عن الخطأ من المحفوظ، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقَبُولِ من قول البشر، ولو كان البشر أعظم حالاً منهم لكان الأمر بالعكس.
ولقائل أن يقول : أما كون الحافظ أكرم من المحفوظ، فهذا بعيد، فإن المَلكَ قد يوكّل بعض عبيده على ولده.
وأما الثاني فقد يكون الشاهد أدون حالاً من المشهود عليه.
الثالث عشر : قوله تعالى :﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ﴾ [النبأ : ٣٨].
والمقصود من ذكر أحوالهم المُبَالغة في شَرْحِ عظمة الله وجلاله، ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى في الإنباء عن عَظَمةِ الله وجلاله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى.
ولقائل أن يقول : ذلك يدلّ على أنهم أزيد حالاً من البَشَرِ في بعض الأمور، فلم لا يجوز أن تكون تلك الحالة هي قوتهم وشدّتهم وبطشهم ؟ وهذا كما يقال : إن السُّلطان لما جلس وقف حَوْلَ سريره ملوك أطراف العالم خاضعين فإن عظمة السُّلطان إنما تشرح بذلك، ثم إنَّ هذا لا يدلُّ على أنهم أكرم عند السلطان من ولده، فكذا ها هنا.
الرابع عشر : قوله :﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلا اائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة : ٢٨٥] فبيّن تعالى أنه لا بدّ في صحّة الإيمان من الإيمان بهذه الأشياء، فبدأ بنفسه، وثَنَّى بالملائكة، وثلّث بالكتب، وربّع بالرسل، وكذا في قوله :﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ﴾ [آل عمران : ١٨]، وقال :﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب : ٥٦]، والتقديم في الذّكر يدلّ على التقديم في الدرجة ؛ لأن تقديم الأدْوَنِ على الأشرف في الذكر قبيح عرفاً، فوجب أن يكون قبيحاً شرعاً.
ولقائل أن يقول : هذه الحجّة ضعيفة ؛ لأن الاعتماد إن كان على " الواو " فـ " الواو " لا تفيد الترتيب، وإِنْ كان على التقديم في الذِّكْرِ ينتقض بتقديم سورة " تَبّت " على سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص : ١].
الخامس عشر : قوله تعالى :" إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ "، فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي - ﷺ - وذلك يدلّ على كون الملائكة أشرف من النبي.
ولقائل أن يقول : هذا ينتقض بقوله :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً " فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي، ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي، فكذا في الملائكة.
واحتجّ من قال بتفضيل الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - على الملائكة بأمور : أحدها : أن الله - تعالى - أمر الملائكة بالسجود لآدم، وثبت أن آدم لم يكن كالقِبْلَةِ، فوجب أن يكون آدم أفضل منهم ؛ لأن السجود نهايَةَ التواضُعِ، وتكليف الأشرف


الصفحة التالية
Icon