أي قولكم : يا رحمان قرباناً، وقَالَ أبو حيان : وقيل : الفاعِلُ مضمر، وهو ضمير الاكتفاء أي : كفى هو أيْ : الاكتفاء، و " الباء " ليست زائدة، فيكون في موضع نصب ويتعلق أنذاك بالفاعل، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين، لأنه لا يجوز عندهم إعْمَالُ المصدر مضمراً، وإن عني بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضاً لوجهين : حذف الفاعل، وإعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله، وفيه نظرٌ ؛ إذْ لقائل أن يقول : إذا قلنا بأن فاعل " كفى " مضمر لا نعلق " بالله " بالفاعل حتّى يلزم ما ذكر بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدَّمَ.
وقال ابْن عيسى : إنَّما دخلت الباء في " كفى بالله " ؛ لأنَّهُ كان يتصل اتَّصال الفاعل [وبدخول الباء اتصل] اتصالَ المضافِ، واتَّصال الفاعل، لأنَّ الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره فضوعِفَ لفظها لمضاعفة معناها، ويحتاج إلى فكر.
قوله :﴿حَسِيباً﴾ فيه وجهان : أصحهما : أنه تمييز يدلُّ على ذلك صلاحيَّة دخول " مِنْ " عليه، وهي علامة التمييز.
والثَّاني : أنه حال.
و " كفى " ها هنا متعدّية لواحد، وهو محذوف تقديره :" وكفاكم الله ".
وقال أبُو البَقَاءِ :" وكفى " يتعدَّى إلى مفعولين حُذِفَا هنا تقديره : كفاك اللهُ شرَّهم بدليل قوله :﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة : ١٣٧] والظاهر أن معناها غيرُ معنى هذه.
قال أبو حيّان بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد : وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله :﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة : ١٣٧] وهو محل نظر.
قال ابن الأنباري والأزهري : يحتمل أن يكون الحَسِيبُ بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرَّجل تهديداً : حَسْبُهُ اللهُ، [ومعناه : يحاسبه] الله على ما يفعل من الظُّلم، ومن الثَّاني قولهم : حسبك الله، أي : كافيك الله وهذا وعيد سواء فسَّرنا الحسيب بالمحاسب، أو بالكافي.
١٩٣
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٨٥
لما ذَكَرَ تعالى أمر اليتامى، وصله بذكر المواريثِ، وهذا هو النَّوْع الرَّابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة، ويكون ما يتعلق بالمواريث.
قال ابن عباس : سبب نزول هذه الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة، فجاء رجلان من بَنِي عمّه وهما وصيّان له يقال لهما : سُوَيدٌ وعَرْفجَة فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهليَّةِ لا يورثون النِّساء ولا الصغار، وإنْ كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرِّجال، ويقولون لا يعطي إلا من قاتل، وطاعن بالرُّمح، وحاز القسمة وذبَّ عن الحَوْزَةِ، " فجأت أمُّ كُحّة فقالت : يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات، وترك عليّ بنات، وأنا امرأته ليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهنّ مالاً حسناً، وهو عند سويد وعرْفجة، ولكم يعطياني ولا بناتي شيئاً وهن في حجري لا يطمعْنَ ولا يسقين، فقال رسول الله ﷺ " ارجعي إلى بيتك حتى أنظر فيما يحدثُ الله في أمرك ".
فدعاهما رسول الله - ﷺ - فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كلاًّ، ولا يَنْكَأُ عَدُوّاً فأنزل الله تعالى :﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ﴾ يعني للذُّكور مما ترك أولاد الميِّت وأقربائه ﴿نَصيِبٌ﴾ حظّ ﴿مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ﴾ من الميراث، ﴿وَلِلنِّسَآءِ﴾ نصيب، ولكنه تعالى لم يُبَيِّن المقدار في هذه الآية، فقال رسول الله ﷺ " لا تُفَرِّقَا مِنْ مَالِ أوْسِ بْنِ ثَابِتْ شيئاً فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيباً مِمَّا تِرَكَ، ولَمْ يبيِّن كَمْ هُوَ حَتَّى أنْظُر مَا يَنْزِلُ فِيهِنَّ " فأنزل اللهُ - عزّ وجلّ - :﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء : ١١] فأرسل رسول الله ﷺ إلى سُوَيْدٍ وَعُرْفُجة أن ادفعا إلى أمّ كُحة الثمن وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال، " فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية.
بين الله تعالى أن للنِّسَاء حقاً في الميراث خلافاً لعادَةِ العرب في الجاهليَّةِ وذكره مُجْملاً أولاً ثم بَيَّنَهُ بعد ذلك على سبيل التدريج ؛ لأنَّ النَّقل عن العادة يشق، فقال لهما :" ادفعا إليها نصيب بناتها الثُّلثين ولَكُمَا باقي المال ".
قوله :﴿مِّمَّا تَرَكَ﴾ هذا الجارُّ في محل رفع ؛ لأنه صفة للمرفوع قبله أيْ : نَصِيبٌ
١٩٤