برفع اللاَّءات.
قال ابن الأنباريِّ : العرب تقولُ في الجمع من غير الحيوان، الّتي، ومن الحيوان : اللاتي، كقوله :﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ [النساء : ٥].
وقال في هذه الآية : اللاتي، واللائي، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأمَّا جمع الحيوان ليس كذلك بل كلُّ واحدةٍ منهما غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات فافترقا، ومن العَرَبِ من يسوِّي بين البابين، فيقولُ : كما فعلت الهندات التي من أرمها كذا، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا، والأوَّلُ هو المختار وفي محلِّ " اللاتي " قولان : أحدهما : الجملة من قوله :﴿فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ﴾ وجاز دخول الفاء زائدة في الخبر، وإن لم يَجُزْ زيادتها في نحو :" زيدٌ فاضرِبْ " على رأي الجمهور ؛ لأن المبتدأ أشبه الشرك في كونه موصولاً عامّاً صلته فِعْلُ مستقبل، والخبرُ مستحقٌّ بالصّلة.
الوجه الثاني : أنَّ الخبر محذوف، والتقدير :" فيما يتلى عليكم حكم اللاتي " فحذف الخبر والمضاف إلى المبتدأ للدلالة عليهما، وأقيمَ المضافُ إلى مُقامَه، وهذا نظيرُ ما فَعَلَهُ سيبويه في نحو :﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ﴾ [النور : ٢] ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ااْ﴾ [المائدة : ٣٨]، أي فيما يُتلى عليكم حُكْمُ الزانية، ويكون قوله :" فاستشهدوا عليهن " " فاجلدوا " دالاًّ على ذلك الحكم المحذوف لأنه بيان له.
والقولُ الثاني : أنَّه منصوبٌ بفعل مقدر لدلالة السِّياق عليه لا على جهة الاشتغال لما نذكره، والتقدير : اقصدوا اللاتي يأتين، أو تعمَّدوا ولا يجوز أن ينتصب بفعل مضمر يفسره قوله :" فاستشهدوا " فتكون المسألةُ من باب الاشتغال ؛ لأنَّ هذا الموصولَ أشبَهَ اسْمَ الشّرطِ، كما تقدَّم تقديره، واسم الشرط ولا يجوز أن ينتصب على الاشتغال، لأنَّهُ لا يعنمل فيه ما قبله فلو نصبناه بفعل فقد لزم أن يعمل فه ما قبله هذا ماق اله بعضهمْ، ويقرُب منه ماق اله أبُو البَقَاءِ فإنَّهُ قال : وإذا كان كذلك، أي : كونه في حُكْمِ الشَّرْطِ لم يحسن النَّصب، لأنَّ تقدير الفعل قبل أداء الشرط لا يجوز وتقديره بعد الصِّلةَ يحتاج إلى إضمار فعل غير قوله " فاستشهدوا " ؛ لأن " استشهدوا " لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في " اللاتي "، وفي عبارته مناقشةٌ يطولُ ذكرُهَا.
٢٣٧
والثَّاني : أنَّهُ منصوب على الاشتغال، ومَنَعَهُمْ ذلك بأنَّه يَلْزَمُ أن يعمل فيه ما قبله جوابه أنَّا نُقَدِّرُ الفعلَ لا قَبْلَهُ، وهذا خلافٌ مشهور في أسماءِ الشَّرْطِ والاستفهام، هل يَجْرِي فيها الاشتغال أم لا ؟.
فمنعه قَوْمٌ لِمَا تقدم وأجازه آخرون مقدَِّرين الفعل بعد الشَّرْطِ والاستفهامِ.
وكونُهُ منصوباً على الاشتغال هو ظاهر كلام مكِّيٍّ، فإنَّهُ ذكر ذلك في قوله :﴿وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ [النساء : ١٦] فالآيتانُ من وادٍ واحد ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لِيتَّضِحَ لك قوله ؛ قال - رحمه الله - :﴿وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا﴾ [النساء : ١٦] الاختيار عند سيبويه في " اللذان " الرفع، وإن كان معنى الكلام الأمْرَ ؛ لأنَّه لمَّا وَصَلَ بالفعلِ تمكَّنَ معنى الشَّرط فيه، إذْ لا يقع على شيء بعينه، فلمَّا تمكَّنَ معنى الشَّرط والإبهام جرى مَجْرَى الشَّرطِ في كونه لم يَعْمل فيه مَا قَبْلَهُ، كما لا يعمل في الشَّرط ما قبله من مُضْمَر أو مظهر، ثم قال :" والنَّصْبُ جائِزٌ على إضمار فعلٍ مدلولٍ عليه كما تَقَدَّمَ نقله عن بعضهم، لأنه لم يكُنْ لتعليله بقوله :" لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره " فائدة، إذ النصبُ كذلك لا يحتاج إلى هذا الاعتذار.
فصل قال القرطبيُّ : الفاحشة في هذا الموضع الزنا، فالمرادُ بالفاحشة : الفعلة القبيحة وهي مصدر كالعَاقِبَةِ والعَافِيَةِ، وقرأ ابن مسعود " بالفاحشة " بباء الجرِّ وقوله :" من نسائكم " في محلِّ النصب على الحال من الفاعل في " يأتين "، فهو يتعلق بمحذوفٍ أي : ياتين كائناتٍ من نسائكم.
وأما قوله :" منكم " ففيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّق بقوله :" فاستشهدوا ".
والثاني : أن يَتَعَلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ صفة لـ " أربعة " فيكون في محل نصبٍ تقديره : فاستشهدوا عليهنَّ أربعةً كائنة منكم.
فصل معنى يأتين الفاحشة أي يفعلنها يقال : أتيت أمراً قبيحاً، أي : فعلته قال تعالى :﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾ [مريم : ٢٧] وقوله تعالى :﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾ [مريم : ٨٩]
٢٣٨