يعني إن وجد فيهم عيباً فهو هذا، وهذا لا يعدّه عيباً فانتفى العَيْبُ عَنْهُمْ بدليل، ولكن هذا الاستثناء على هذا المعنى الَّذي أباه الزَّمَخْشَرِيُّ، من قبيل المنقطع، أو المتصل ؟ والحقُّ أنَّهُ متصل لأن المعنى : ولا تَنْكَحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [إلا] اللاتي مضين وفنين، وهذا محالٌ، وكونه محالاً لا يخرجه عن الاتَّصال، وأمَّا البيتُ ففيه نَظَرٌ ؛ والظَّاهِرُ أنَّ الاستثناء فيه متصل أيضاً لأنه جعل العيب شاملاً لقوله :" غير أن سيوفهم [بهن فلول من قراع] " بالمعنى الَّذي أراده وللبحث فيه مجال، فتلخَّص مِمَّا تَقَدَّمَ أنَّ المراد بالنِّكَاحِ في هذه الآيةِ العقدُ الصَّحِيحُ، أو الفاسد أو الوطء، أو يرادُ بالأوَّلِ العقد، وبالثَّانِي الوَطْءُ وقد تَقَدَّمَ الكَلاَمُ على ذلك في البَقَرَةِ.
وزعمَ بعضهم أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً، والأصل :" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف "، وهذا فاسدٌ من حيث الإعراب ومن حيث المعنى، أمَّا الأوَّل فلأنَّ ما في حيز " إن " لا يتقدَّمُ عليها، وأيضاً فالمستثنى يتقدَّمُ على الجملة الَّتي هو من متعلِّقاتها سواءً كان متصلاً أو منقطعاً وإن كان في هذا خلاف ضعيف.
وأمَّا الثَّاني فلأنَّهُ أخْبَرَ أنه فاحشة ومقت في الزَّمان الماضي [بقوله " كان "، فلا يصحُّ أن يستثنى منه الماضي ؛ إذ يصيرُ المعنى هو فاحشة في الزّمان الماضي] إلا ما وقع منه في الزَّمَان الماضي فليس بفاحشة.
وقيل : إن " إلا " هاهنا بمعنى " بَعْدَ " كقوله تعالى ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى [وَوَقَاهُمْ]﴾ [الدخان : ٥٦] أيْ بعد المَوْتَةِ الأوَلى وقيل ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قيل نزول آية التحرير وقيل ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ فإنكم مقرون عليه، قالوا : لأنَّهُ عليه السَّلاَمُ أقَرَّ بما عليهنَّ مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنَّمَا فعل ذلك ليكون إخراجهم عن العادة الرَّديئة على سبيل التَّدرُّجِ.
وقيل : إنَّ هذا خطأ ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ ما أقَرَّ أحداً على نكاح امرأة أبيه، وَإنْ كان في الجاهليَّةِ، لما روى البراء بنُ عَازِبٍ قال : مَرَّ بِي خَالِي أبُو بُرْدَة [ابن نيار] ومعه لواء قلت أيْنَ تَذْهَبُ ؟ قال : بَعَثَنِي رَسُولُ الله ﷺ إلى رجل تزوَّجَ امرأة أبيه مِنْ بعده آتيه برأسه وآخذ ماله.
٢٧٨
فصل قال القُرْطُبِيُّ، وقد كان في العَرَبِ قبائل [قد اعتادت] أنْ يخلف [ابن] الرَّجُل على امرأةِ أبيه، وكانت هذه السِّيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التَّراضي، ألا ترى أنَّ عمرو بْنُ أميَّة خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافراً وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ؛ فكان بنو أمية إخوة [مُسَافِر وأبي مُعَيط] وأعمامها، وأيضاً صفوان بن أميَّةَ تزوَّج بعد أبيه امرأته، فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسَد، وكان أميّة قتل عنها ومن ذلك منظور بن زبَّان خلف على مُلَيْكة بِنْتِ خَارِجَةَ، وكان تحت أبيه زبَّان بن سيار ومن ذلك حِصْن بن أبِي قَيْسٍ تزوَّجَ امرأة أبيه [كُبَيْشَة] بنت معن، والأسود بن خلف تزوَّج امرأة أبيه.
قوله :﴿إِنَّهُ﴾ إن هذا الضمير يعود على النِّكَاح المفهوم من قوله :﴿وَلاَ تَنكِحُواْ﴾ ويجوز أن يعود على الزِّنَا إذا أرِيدَ بقوله ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ من الزِّنَا و " كان " هنا تدلُّ على الماضي فقط ؛ لأنَّ معناها هنا : لم يزل، أي في حكم اللهِ وعلمه موصوفاً بهذا الوصف، وهذا المعنى هو الذي حَمَلَ المبرد على قوله :" إنها زائدة "، وردَّ عليه [أبُو حَيَّان] بوجود الخبر والزَّائدة لا خبر لها، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرناه من قوله لا تَدُلُّ على الماضي فَقَطْ، فَعَبَّر عن ذلك بالزِّيَادَةِ.
فصل وصف تعالى هذا النِّكَاحَ بأمُورٍ ثَلاَثَةٍ : الأوَّلُ : أنَّهُ فاحشةٌ، والفَاحِشَةُ أقبحُ المعاصي، وذلك أنَّ زوجة [الأب] تشبه الأمّ، فكان مباشرتها من أفْحَشِ الفواحش لأنَّ نكاح الأمّهات من أقبح الأشْيَاءِ عند العَرَب قال أبُو العبَّاس سالت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرَّجل امرأة أبيه إذا طلَّقها أو مات عنها ويقال لهذا الرَّجُل : الضَّيْزَن وقال ابْنُ عَرَفَة : كانت العرب إذا تزوَّجَ الرَّجُلُ امرأة أبيه فأولدها، قيل للولد : المقتِيّ.
والثَّاني : امَقْتُ هو بغضٌ مقرون باستحقار، فهو أخصُّ منه، وهو من اللَّه تعالى في حقِّ العبد يدلُّ على غاية الخزْي والخَسَارِ، وكان لذلك أخص قبل النَّهْي منكراً في.
٢٧٩