نظرٌ لا يخفى، وأمَّا الجرُّ فعلى ما قاله أبُو البَقَاءِ، وقد تَقَدَّم ما فيه.
و ﴿مُّحْصِنِينَ﴾ حال من فاعل تبتغوا، و ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ حال ثانية، ويجوزُ أن يكون حال من الضَّمَيرٍ في ﴿مُّحْصِنِينَ﴾، ومفعول مُحصنينَ ومُسافحينَ محذوف، أي : محصنين فُرُوجَكُمْ غير مسافحين الزَّوَانِي، وكأنَّها في الحقيقةِ حال مؤكدة ؛ لأنَّ المحصن غير مسافح، ولم يقرأ أحدٌ بفتح الصَّادِ من محصنين فيما نعلم.
والسَّفَاحُ الزِّنَا.
قال اللَّيث : السَّفَاحُ والمُسَافحةُ : الفجور، وأصله الصَّبُّ، يقال : دموع سَوَافِحُ ومسْفُوحةٌ.
قال تعالى :﴿أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ [الأنعام : ١٤٥] وفلان سَفَّاحٌ للدِّمَاء، وسمي الزَّنَا سفاحاً ؛ لأنَّهُ لا غرض للزَّاني إلا صب منيه، وكانوا يَقُولُونَ صافحني ومَا ذَمَّنِي والمسافحُ من يظاهر بالزِّنَا، ومتّخذ الأخْدَان من تستر فاتَّخَذَ واحدة خفية.
فصل [الخلاف في قدر المهر] قال أبُو حنيفة : لا مهر أقلَّ من عشرة دراهم، وقال غيره : يجوزُ بالقليل والكثير، واحتج أبُو حنيفة بهذه الآية ؛ لأنَّهُ تعالى قَيْد التحليل بالابتغاء بالأموال و [الدِّرهم] والدرهمان لا يسمّى أموالاً، فلا يصحُّ جعلها مهراً.
فإن قيل : ومَنْ عنده عشرة دراهم، لا يقال عنده أموال ع أنَّكُم تجوزونها مَهْراً قلنا : ظاهر الآيةِ يقتضي ألاَّ يكون العشرة كافية، إلا أنَّا أنزلنا العملَ بظاهر هذه الآية للإجْمَاعِ على جوازه، ويتمسَّك في الأقل من العشرة بِظَاهِرِ الآية وهذا استدلال على أنَّ الابتغاء بغير الأموال غير جائز، إلاّ على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولُونَ به، واستدلّ المخالف بوجوه : أحدها : قوله ﴿أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ﴾ فقابل الجَمْعُ بالجَمْعِ فيقتضي توزع الفَرْد على الفَرْدِ، وهذا يقتضي أنْ يتمكَّن كلُّ واحدٍ من ابتغاء النِّكَاح بما يسمى مالاً، والقليل والكثير في هذه الحقيقةِ، وفي هذا الاسم سواء.
وثانيها : قوله تعالى ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة : ٢٣٧] فَدَلَّتْ الآية على سقوط النصف من المذكور، وهذا يقتضي أنَّهُ لو وقع العقدُ في أوَّلِ الأمْرِ بِدرْهمٍ : لم يجب إلا نصفُ درهمٍ، وأنْتُمْ لا تقُولُونَ به.
وثالثها : ما رُوِيَ أنَّ امْرَأةً جيء إلى النَّبيِّ ﷺ و تزوّج بها رجل على نعلين
٣٠٦
فقال عليه السَّلام " رَضيت مِنْ نَفْسِكَ بِنَعْلَين "، فقالت : نعم ؛ فأجازه النبي ﷺ " والظاهرُ أنَّ قيمة النَّعلين أقلُّ من عشرةِ دراهم، فإنَّ مثل هذا الرجل والمرأةِ اللذين تزوَّجَا على نعلين يكونان في غَايَةِ الفَقْرِ فنعلهما تكون قليلة القِيمَةِ جدّاً.
وروى جَابِر عن النَّبي ﷺ أنَّهُ قال :" مَنْ أعْطَى امْرأةً من نِكَاح كَفَّ دقيق، أو سويق، أو طعاماً فقد استحلّ "، وحديث الواهبة نفسها أنَّهُ - عليه السَّلامُ - " قال لِلَّذي أرَادَ أن يتزوَّجَهَا الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتماً مِنْ حَدِيدٍ " وذلك لا يساوي عشرة دراهم.
فصل [في الخلاف في المهر بالمنافع] قال أبُو حنيفةَ : لو تزوَّجَهَا على تعْليمِ سورة من القُرْآنِ لم يكن ذلك مهراً، ولها مهر مثلها ولو تزوَّجَهَا على خدمة سَنَةٍ، فإنْ كان حرّاً فلها مَهْرُ مثلها، وإنْ كان عبداً فلها خدمة سنة وقال غيره : يجوزُ جعل ذلك مهراً، واحتجَّ أبُو حنيفةَ بهذه الآية.
قال : لأنَّهُ تعالى شرط في حصول الحل ذلك الابتغاء بالمال، والمال اسمٌ للأعيان لا للمنافع وأيضاً قال :﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ وذلك صفة للأعيان لا للمنَافِعِ، وأيضاً قال ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ [النساء : ٤].
وأجيب عن الأوَّل بأن الآية دَلَّت على أنَّ الابتغاء بالمال جائز، وليس فيه بيان أنَّ الابتغاء بغير المال جَائِزٌ أم لا.
وعن الثاني : بأنَّ لَفْظَ الايتاء كما يتناولُ الأعيان المنافِعَ الملتزمة.
وعن الثَّالث : أنَّهُ خرج الخطاب على الأعمِّ الأغلب.
واستدلَّ المُخالفُ بوجهين : أحدهما : قصة شعيب في قوله لموسى ﴿إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ [القصص : ٢٧] وشرعهم شرع لَنا ما لم يرد نَاسِخٌ.
٣٠٧


الصفحة التالية
Icon