الرَّابِعُ : أنَّهُ منصوب عطفاً على " موالي ".
قال أبُو البَقَاءِ :[أي :] " وجعلنا الذين عاقدتْ وُرّاثاً ؛ وكان ذلك ونسخ "، وردّ عليه أبُو حَيَّان بِفَسَادِ العطْفِ، قال : فإن جُعِل من عطْفِ الجُمَل، وحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أيْ : جعلنا وُرَّاثاً لكلِّ شَيْءٍ من المال، أو لِكُلِّ إنسان، وجَعلنَا الذِينَ عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً وفيه بعد ذلِكَ تَكَلُّفٌ.
انتهى.
وقرأ عاصمٌ وحمْزَةُ والكسَائِيُّ :" عقدت " والباقون :" عاقدت " بألف وروي عن حمزة التَّشديد في " عقدت "، والمفاعلة هنا ظَاهِرَةٌ ؛ لأنَّ المَرَادَ المخالفة.
والمفعولُ محذوفٌ على كُلٍّ من القِرَاءاتِ، أي : عاقدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم، ونسبة المُعاقَدَةِ، أو العَقْدِ إلى الأيمان مجاز، سوَاءٌ أُريد بالأيْمَانِ الجَارِحَة، أم القَسمُ.
وقيل : ثمَّ مُضافٌ محذوفٌ، أي : عقدت ذَوُو أيْمَانِكُم.
فصل في :" معنى المعاقدة والأيمان " المُعَاقَدَةُ المُحالَفَةُ، والأيْمَانُ جمع يَمينٍ من اليد والقسَمِ، وذلك أنَّهُم كانُوا عند المُحالَفَةُ يأخذُ بعضهُمُ يدَ بَعْضٍ، على الوفَاءِ [والتمسك] بالعهد.
فصل الخلاف في نسخ الآية قال بعضهم : إنَّ هذه الآية مَنْسُوخَةٌ، واسْتدلُّوا على ذلك بوجوه : أحدها : أنَّ الرَّجُلَ كان في الجاهلِيَّةِ يُعَاقِدُ غيْرَهُ، فيقُولُ :" دَميَ دمُكَ وسِلْمِي سِلْمُك، وَحَرْبِي حَرْبُكَ، وترثُنِي وَأرِثُك، وَتَعْقِلُ عَنِّي، وأعْقِلُ عنك "، فيَكُونُ لهذا الحليف السّدس [من] الميراثِ، فذلك قوله :" فآتوهم نصيبهم "، فنُسِخ ذلك بقوله :﴿وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال : ٧٥]، وبقوله :﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ﴾ [النساء : ١١].
وثانيها : أنَّ الرَّجُلَ كانَ يتَّخِذُ أجنبياً فيجعله ابْناً له، وَهُمُ المُسَمُّوْنَ بالأدْعِيَاء في قوله تعالى :﴿أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ﴾، وكانوا يتوارثون بذلك، ثم نُسِخَ.
٣٥٧
وثالِثُهَا : أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان يُثْبِتُ المؤاخاة بيْنَ الرَّجلين مِنْ أصحابِهِ، وكان ذلك سَبَباً للِتَّوَارُثِ، ثم نسخ.
وقال آخرُونَ : الآيةُ غير مَنْسُوخَةٍ.
وقال إبْراهيمُ ومُجاهِدٌ : أرادَ :" فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة ولا ميراث ".
وقال الجبَّائِيُّ : تقدير الآية :" ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون "، " والذين عاقدت أيمانكم " معطوف على قوله :" الوالدان والأقربون "، وسمى اللَّهُ تعالى الوارث مولى، والمعنى : لا تَدفعُوا المالَ إلى الحليفِ، بل للمولى، والْوَارِثِ.
وقال آخرون : المُرادُ بـ " الذين عاقدت أيمانكم " الزَّوْجُ، والزَّوْجَةُ، فأراد عقد النِّكاح قال تعالى ﴿وَلاَ تَعْزِمُوا ااْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ [البقرة : ٢٣٥] وهو قول أبِي مُسْلِم الأصفهانيَّ قال : ونظيره آية المواريث، لما بَيَّنَ آية ميراث الوالدَيْنِ، ذكر معهم ميراثَ الزَّوْجِ، والزَّوْجَةِ.
وقيل : أراد بقوله :" الذين عاقدت أيمانكم " : الميراث بِسَبَبِ [الوَلاَء] وقيل :" نزَلَتِ الآيةُ في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق، وابنه عبد الرَّحْمن، أمره اللَّه أن يؤتيه نَصِيبَهُ ".
وقال الأصمُّ : المُرادُ بهذا النَّصِيب على سبيل الهِبَةِ، والهديَّة بالشيءِ القَلِيلِ كأمره تعالى لمن حَضَرَ القِسمَةَ أن يجعل لَهُ نصيباً كما تقدّم.
فصل الخلاف في إرث المولى الأسفل من الأعلى قال جمهور الفُقَهَاءِ :" لا يَرثُ المَولى الأسْفَل من الأعلى ".
وحكى الطَّحَاوِيُّ عن الحسن بنِ زيادٍ أنَّهُ قال :" يَرِثُ "، لما روى ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّ رجُلاً أعتق عبداً له ؛ فَمَاتَ المُعْتِق، ولم يترك إلا المُعتَق، فجعل رسُول اللَّه ﷺ ميراثه للغلام المعتق ولأنَّهُ داخلٌ في عموم قوله :" والذين عاقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم ".
وأجيب بأنه لَعَلّ ذلك لما صار لبيت المال دفعه النبي ﷺ إلى الغُلامِ لحاجته،
٣٥٨
وفقره ؛ لأنه كانَ مالاً لا وارث لَهُ، فَسَبيلُهُ أن يُصرف إلى الفُقَرَاءِ.
ثم قال تعالى[ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء : ٤٨] ثم قال] ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾، وهذه كلمة وعد للمطيعين، ووعيد لِلْعُصَاةِ، والشَّهِيدُ الشَّاهد، والمرادُ إمّا علمه تعالى بجميع المَعْلُومَاتِ، فيكونُ المُرَادُ بالشَّهيدِ العالم، وإمّا شهادته على الخلق يَوْمَ القِيامَةِ، فالمُرَادُ بالشَّهيدِ المخبر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٥٤


الصفحة التالية
Icon