لها حينئذ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة : ٩٦].
قال أبو البقاءِ :" وعصوا الرسول " في موضع الحالِ، و " قد " مًُرَادةٌ، وهي معْتَرِضَة بين " يود " وبين مَفْعُولها، وهي " لو تسوى " و " لو " بمعنى المصدريَّة انتهى.
وفي جَعْلِ الجنلة الحَاليَّة معترضة بين المَفْعُول وعامِله نَظَرٌ لا يَخْفَى ؛ لأنها من جُمْلَة متعلِّقات العامِل الذي هو صِلَة للمَوْصُول ؛ وهذا نظير قولك : ضَرَب الذين جَاءُوا مُسْرِعين زَيْداً، فكما لا يُقال : إن مُسْرِعين مُعْتَرض به، فكذلك هذه الجملة.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم : تُسَوَّى [بضم التَّاءِ، وتخفيف السّين مبنياً للمفعُول، وقرأ حمزة والكِسائي :" تَسَوَّى " ] بفتح التَّاء والتخفيف، ونافع وابن عامر : بالتَّثْقِيل.
فأما القراءة الأولَى، فمعناها : أنَّهم يودُّون أن الله - سبحانه وتعالى - يُسَوِّي بهم الأرض : إمّا على أن الأرْض تَنْشَقُّ وتبتلِعُهم، وتكون البَاءُ بمعنى " عَلَى "، وإما على أنَّهم يودُّون أن لو صارُوا تُرَاباً كالبَهَائِمِ، والأصْل يودُّون أن الله - تعالى - يُسَوِّي بهم الأرض، فَقٌلِبَت إلى هَذَا ؛ كقولهم : أدْخَلْتُ القََلُنْسُوَة في رَأسِي، وإمذا على أنَّهم يودُّون لو يُدْفَنُون فيها، وهو كالقَوْلِ الأوَّل.
وقيل : لو تُعْدَلُ بهم الأرْضُ، أي : يُؤْخَذ ما عَلَيْها منهم فِدْيَة.
وأما القِرَاءة الثانية : فأصلها " تتسوى " [بتاءَيْن]، فحذفت إحداهما، وأدغمت في السّين لقربها منها.
وفي الثَّالِثَة حذفت إحداهما، ومعنى القراءتين ظاهرٌ ممَّا تقدَّم ؛ فإن الأقوال الجاريةَ في القراءة الأولى، جاريةٌ في القراءتين الأخيرتَيْن غاية ما في البَابِ أنه نَسَب الفِعْل إلى الأرْض ظاهراً.
قوله :﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّه﴾ : وذلك أن هذه الواو تَحْتَمِل أن تكون لِلْعَطْف، وأن تكون للحالِ.
فإن كانت للعَطْف، احْتمل أن تكُون من عطف المفرداتِ، [وأن تكون من عطف الجُمَلِ، إذا تقرر هذا]، فقوله :﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّه﴾ يجوزُ أن يكون عَطْفاً على مَفْعُول ﴿يَوَد﴾ أي : يودذُون تسوية الأرْضِ بهم، وانتفاء كتمان الحديُ، و " لو " على هذا مَصدريَّة، ويبعد جَعْلُها حرفاً لما سيَقَع لوُقُوع غَيْرِه، ويكون و " لا يكتمون " عطفاً على مَفعُول " يود " المحذُوف، فهذان وَجْهَان على تقدِير كَوِنِه من عطف المفردات.
ويجوز أن سكون عَطْفاً على جُمْلة " يود " أخبر - تعالى - عنهم بخبرين : أحدهما : الودادةُ لِكَذَا.
والثاني : أنهم لا يقدرُون على الكضتْمِ في مواطِنِ دون [مَوَاطِن]، و " لو " على هذا مَصدريَّة، ويجوز أن تكون [لو] حرْفاً لما سيقع لوقُوع غيره، وجوابُهَا مَحْذوف، ومفعول " يود " أيضاً مَحْذُوف، ويكون " ولا يكتمون " عطفاً على " يود " وما في حيزها، ويكون - تعالى - قد أخبر عَنْهُم بثلاثِ [جمل] : الوَدَادَة، وجُمْلَة الشرط بـ " لو "، وانتفاء الكِتْمَان، فهذان أيضاً وَجْهَان على تقدير كونِه من عطفة الجُمَل، وإن كانت للحالِ، جاز أن تكُون حالاً من الضمير في " بهم "، والعامِل فيها " تسوى "، ويجوز في " لو " حينئذٍ ان تكون مصدريَّة، وأن تكون امتناعيَّة، والتقدير : يُريدُون تَسْوِيَة الأرْض بهم غير كَاتِمين، أو لَوْ تُسَوَّى بهم غير كَاتِمين لكان ذلك بُغْيَتهم، ويجوز أن تكون حالاً من " الذين كفروا "، والعامل فيها " يود " ويكون الحالُ قيداً في الوَدَادَةِ، و " لو " على هذا مصدريَّة في [محل] مفعُول الوَدَادَة، والمعْنَى [يومئذٍ] يَودُّ الذين كفرُوا تسوية الأرْض بهم غّير كاتمين الله حَديثاً، ويَبْعد أن تكون " لو " على هذا الوجه امتناعِيَّة، للزوم الفَصْل بين الحَالِ وعامِلِها بالجُمْلَة، و " يكتمون " يتعدى لاثْنَيْن، والظَّاهِر أنه يَصِل إلى أحدهما بالحَرْف، والأصل : ولا يكتُمون من الله حديثاً.
فصل قال عَطَاء : وَدُّوا لَوْ تُسوَّى بهم الأرْضُ، وأنهم لم يكُونوا امر مُحَمَّدٍ ﷺ ولا نعته، وقال آخرُون : بل هو كلامٌ مُسْتأنفٌ، يعني : ولا يكتثمون الله حديثاً ؛ لن جضوَارحَهُم تَشْهَد عليهم.
٣٩٠