أظهرهما : أن يكُون بمعنى أفْعَل، ويكون المُفَضَّل عَلَيْه " محذوفاً، أي : لو قالُوا هذا الكلام، لكان خَيْراً من ذَلِك الكَلاَمِ.
والثاني : أنه لا تَفْضِيل فيه] بل يَكُون بمعنى جيّد وفَاضِل، فلا حَذْف حينئذٍ، والباءُ في " بكفرهم " للسَّبَبية.
قوله :" إلا قليلاً " فيه ثلاثة أوجُه : أحدها : أنه مَنْصُوب على الاستثنَاء من ﴿لَّعَنَهُمُ﴾، أي : لعنهم الله إلا قليلاً منهم، فإنَّهم آمنُوا فلم يَلْعَنْهُم.
والثاني : أنه مستثْنى من الضَّمِير في " فلا يؤمنون "، والمراد بالقَلِيلِ عبد الله بن سَلاَم وأضرابه، ولم يَسْتَحسن مَكِّي هذيْن الوَجْهَيْن : أما الأوّل : قال : لأنَّ مَنْ كَفَرَ مَلْعُونٌ لا يُسْتَثْنَى منهم أحد.
وأما الثاني : فلأن الوجْه الرَّفع على البَدَل ؛ لأن الكَلامَ غير مُوجِبٍ.
والثالث : أنَّه صِفَةٌ لمصدر محذُوف، أي : إلا إيماناً قَلِيلاً ؛ وتعليله هو أنَّهُم آمنوا بالتَّوحيد وكَفَرُوا بمحمَّد ﷺ وشَرِيعَته.
وعبَّر الزَّمَخْشَري وابن عطيّة عن هذا التَّقليل بالعَدَم، يعني : أنَّهُم لا يؤمِنُون ألْبَتَّةَ كقوله :[الطويل] ١٨٠٧ - قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ
كَثيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِك
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٠٤
قال أبو حيان : وما ذكراهُ من أنَّ التقْليل يُرادُ به العَدَم صَحِيحٌ، غير أن هَذَا التَّرْكيب الاستثنائي يأباه، فإذا قُلت : لم أقُمْ إلاَّ قَلِيلاً، فالمعنى انْتفَاء القِيَامِ إلا القَلِيل، فيوجد منك إلا أنَّه دالٌّ على انْتِقَاءِ القِيَام ألْبَتَّةَ]، بخلاف : قلَّما يقُول ذلك أحَدٌّ إلا زَيْد، وقَلَّ رَجُلٌ يفعل ذلك، فإنه يَحْتَمِل التَّقْليل المُقَابل للتكثيرِ، ويحتمل النَّفْي المَحْض، أما أنك تَنْفِي ثم تُوجِب، ثم تُريد بالإجَابِ بعد النَّفْي نَفْياً فلا ؛ لأنه يَلْزَم أن تَجيء " إلاَّ " وما بَعْدَهَا لَغْواً من غير فائدةٍ ؛ لأن انْتِفَاء القِيَام قد فُهِمَ من َوْلِكَ : لَمْ أقُمْ، فأيُّ فَائِدةٍ في استِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يرادُ به انْتِفَاء مَفْهُوم من الجُمْلَة السَّابِقة، وأيْضاً فإنَّه
٤١٠
يُؤدِّي إلى ان يكُون ما بَعْدَ " إلاَّ " مُوافقاً لما قبلها في المَعْنَى، والاستِثْنَاء يَلْزَم أن يكُون ما بعد إلا مُخالفاً لما قبلها فيهِ.
فصل : الخلاف في القليل الوارد في الآية معنى الكَلاَم " فلا يُؤمِن إلاَّ أقْوامٌ قَلِيلُون، واخْتَلَفُوا في ذلك القليل : فقال بعضُهم : هو عَبْد الله بن سَلاَم، ومن أسْلَم معه مِنْهُم.
وقليل : القَلِيل صفة للإيمان، والتَّقدير : فلا يؤمِنوُن إلا إيماناً قليلاً، فإنَّهم كَانُوا يرمِنُون بالله والتَّوْرَاة [موسى]، والتَّقْدِير : فلا يُؤمِنُون إلا بِمُوسَى، ولكنَّهم كانوا يَكْفُرون بسائِر الأنبياءِ، وَرَجَّحَ أبو عَلِيٍّ الفَارِسِيّ هذا القَوْل ؛ قال : لأن ﴿قَلِيلاً﴾ لفظ مُفْرَد، والمُرَادُ به الجَمْع، قال - تعالى - :﴿وَحَسُنَ أُولَـائِكَ رَفِيقاً﴾ [النساء : ٦٩]، وقال :﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ [المعارج : ١٠، ١١] فدلَّ عَوْد الذكر مَجْمُوعاً إلى الآيتيْن على أنَّه أريد بهما الكَثْرة.
فصل : الاستدلال بالآية على جواز تكليف ما لا يطاق استدل بَعْضُ العُلماء بهذه الآيةِ مع الآيةِ التي بَعْدَهَا، على جَوازِ تكْلِيفِ ما لا يُطَاق ؛ لأنه - تعالى - أخْبَرَ عَنْهُم في هذه الآية بأنَّهُم لا يُؤمِنُون، وخبرُهُ - تعالى - صِدْق وحَقٌّ، ثم أمرهم في الآيةِ التي بَعْدَها بالإيمانِ، فقال :﴿يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ﴾ [النساء : ٤٧] فأمرهم بالإيمان مع إخْبَارِه بأنَّهمُ لا يُؤمِنُون.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٠٤
" وذلك أن النَّبي ﷺ كَلَّم أحْبَارَ اليَهُود : عِبْد اللهِ بن صوريا، وكَعْب بن الأشْرَف، فقال : يا مَعْشَر اليَهُود، اتَّقُوا الله وأسْلِمُوا، والله إنكُم تَعْلَمُون أن الَّذِي جِئْتُم به الحَقّ، قالوا : ما نَعْرِفُ ذلك، وأصَرُّوا على الكُفْرِ ؛ " فَنَزَلَت هذه الآية.
فإن قيل : كان يَجِبُ أن يأمُرهُم بالنَّظَرِ والتفكُّر في الدَّلاَئِل، حتى يكُون إيمانُهُم استِدْلاليّاً، فلما أمرهُم بالإيمان ابْتِداءً ؛ فكأنه - تعالى - أمَرَهُم باٌيمَان على سَبِيل التَّقْليد.
فالجوابُ : أن هذا خِطابٌ مع أهْلِ الكتاب، وكانُوا عَالِمين بِهَا في التَّوْراة ؛ ولهذا قال :﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ أي : من الآيَاتِ الموْجُودَة فِي التَّوْرَاة الدَّالة على نُبُوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام -.
٤١١