﴿كَيفَ﴾ منصوبٌ بـ ﴿يَفْتَرُونَ﴾ وتقدم الخِلافُ فيه، والجملةُ في محلِّ نَصْبِ، بعد إسقاط الخَافِضِ ؛ لأنَّها مُعلقةٌ لـ " انظر " يتعدى بـ " في " ؛ لأنها - هنا - ليستْ بَصريَّةً، و " على الله " مُتعلِّقٌ بـ ﴿يَفْتَرُونَ﴾، وأجاز أبُو البَقَاءِ : أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الكذبِ، قُدِّمَ عليه، قال :" ولا يجوز أن يتعلق بالكذب ؛ لأن معمولَ المصْدَرِ لا يتقدَّمُ عليه، فإن جعل على التَّبيين جَازَ "، وجوّز ابن عطيةَ : أن يكون " كيف " مُبْتدأ، والجملةُ مِنْ قوله ﴿يَفْتَرُونَ﴾ الخَبَرُ، وهذا فاسدٌ، لأن " كَيْفَ " لا تُرْفَعُ بالابتداءِ، وعلى تقدير ذلك، فأيْن الرَّابِطُ بينها وبَيْنَ الجملةِ الوَاقعَةِ خبراً عنها ولم تكن نفس المُبْتدأ، حتى تِسْتغْنِي عَنْ رَابِطٍ، و ﴿إِثْماً﴾ تمييزٌ، والضميرُ في " به " عائدٌ على الكذبِ، وقِيلَ : على الافْتِرَاءِ وجعلهُ الزمخشريُّ عَائِداً على زَعمهمْ، يعْنِي : من حَيْثُ التقديرُ.
فصل في تعجيب النبي ﷺ من اليهود هذا تَعْجيبٌ للنبيّ ﷺ مِنْ فرْيتهم على الله، وهو تَزْكيتهُم أنْفسَهُمِ وافْتراؤهم، وهو قولهم :﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة : ١٨].
فصل في معنى الكذب الكَذِبُ : هو الإخْبَارُ عَنِ الشيء على خلافِ المُخبرِ عَنْهُ، سَواءٌ عَلِمَ قَائِلُه كَوْنَهُ كذلك، أوْ لا يَعْلَمُ، وقال الجَاحِظُ : شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِباً، أنْ يعلمَ القائِلُ كَوْنَه بِخلافِ ذلكِ، وهذه الآيةُ دليلٌ عليه ؛ لأنَّهم كانُوا يَعْتَقدٌون في أنْفسهم الزِّكاءَ، والطَّهَارَةَ : وكذبهم الله فيه.
وقوله :﴿وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً﴾ يقالُ في المدْحِ، وفي الذَّمِّ، أمَّا فِي المدْحِ، فكقوله ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً﴾ [النساء : ٤٥] وأمَّا في الذَّمِّ، فكما في هذا الموضع.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٩
قال المُفسِّرون : خرج كَعْبُ بنُ الأشْرَفِ، وحُيَيّ بن أخْطَبَ، فِي سَبْعِينَ رَاكِباً
٤٢٠
من اليَهُودِ إلى مَكَّةَ بعد وَقْعَةِ أحُد ؛ ليُحالفُوا قُرَيْشَاً، على مُحَارَبَةِ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسلام - ويَنقُضُوا العهدَ الذي كان بينَهُم وبين النبيِّ ﷺ، فنزل كَعْبٌ علَى أبي سُفْيانَ ؛ فأحْسَن مَثْوَاه، ونزلت اليهودُ في دُورِ قُرَيْشٍ، فقال أهْلُ " مكةَ " : إنكم أهل كتاب، ومُحَمَّدٌ صاحب كِتابٍ، ولا نأمَنُ أن يكُونَ هذا مَكراً مِنكم، فإن أرَدْتَ أن نخرجَ مَعَكَ، فاسْجُدْ لهذين الصَّنَمَيْنِ وآمنوا بهما، فَفَعلُوا ذلك ؛ فذلك قوله تعالى :﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾.
ثم قال كَعْبٌ لأهْلِ مَكَّةِ : ليجيء منكم [الآن] ثلاثُونَ ومِنَّا ثلاثُونَ فنلْزق أكْبَادنا بالكعبةِ ؛ فنعاهد رَبَّ هذا البيتِ، لنجهدنَّ على قِتَالِ مُحَمَّدٍ ؛ فَفَعلُوا، ثُمَّ قال أبُو سُفْيانَ لِكَعْبٍ : إنَّك امرؤٌ تَقْرَأُ الكِتَابَ، وتَعْلَمُ، ونحنُ أُمُّيُّون، ولا نَعْلَمُ، فَأُّنَا أهْدَى طَريقاً : نَحْنُ أم مُحَمَّدٌ ؟ فقال كَعْبٌ لأبي سُفْيان : اعرضُوا عليَ دينكم، فقال أبُو سُفْيَانَ : نحن نَنْحَرُ للحَجِيج الكُومَاء، ونَسْقيهمُ [الماء] ونَقْري الضَّيْفَ، ونُقِلُّ العَانِ، ونَصِلُ الرَّحِمَ، ونعَمِّرُ بين رَبِّنَا، ونطوفُ به، ونحنُ أهْلُ الحَرَم، ومحمدٌ فارق دينَ آبَائِهِ، وقطعَ الرَّحمَ، وفارقَ الحَرَمُ، ودينُنَا القَديمُ، ودينُ محمدٍ الحديثُ، فقال كَعْبٌ : أنْتُمْ واللهِ أهْدَى سَبِيلاً مَمَّا عليه محمدٌ ؛ فنزلتْ هذه الآيةُ.
قوله :﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فيه وجهانِ : أحدُهُمَا : انه حَالٌ إمَّا من :" الذين " وإمَّا مِنْ واوِ " أوتوا "، و " بالجبت " مُتعلِّقٌ به، و " يقولون " عطفٌ عليه، و " الذين " مُتعلِّقٌ بـ " يقولون "، واللامُ ؛ إمَّا للتبيلغِ، وإمَّا لِلْعِلةِ ؛ كنظائرها، و " هؤلاء أهدى " مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محل نَصْبٍ بالقول و " سبيلاً " تَميِيزٌ.
والثَّانِي : أنَّ " يؤمنون " مُسْتأنَفٌ، وكأنَّه تعجَّبَ مِنْ حَالِهم ؛ إذْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ أوتِيَ نَصيباً من الكتاب ؛ إلاَّ يَفْعَلَ شَيْئاً مِمَّا ذُكِرَ، فَيكُونُ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ ؛ كأنَّهُ قيلَ : إلاَ تَعْجَبُ مِنْ حَالِ الذِين أوتُوا نَصِيباً من الكتاب ؟ فقيل : وما حالُهم ؟ فقالَ : يؤمِنُون [ويقولونَ، وهذان] منافيان لحالهم.
والجِبْتُ : حَكَى القَفّضالُ، وغيرهُ، عَن بَعْضِ أهلِ اللُّغَةِ : وهو الجِبْسُُ، بِالسِّينِ المُهْمَلَةِ، أُبدلتْ تاءً، كالنَّات، والأكْيَاتِ، وست ؛ في النَّاسِ، والأكياسِ، وسدس، قال [الرجز المشطور]
٤٢١
١٨٠٩ -.......................
شِرَارَ النَّاتِ لَيْسُوا بِأجْوَادٍ ولاَ أكْيَاتِ
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢٠