قصد إيلامها، وإيلام من بلغ في العجز إلى هذا الحد أقبح.
وعند هذه الشبهة افترق المسملون فرقاً كثيرة : فقالت المكرمية : لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لَعَلَّ تعالى يرفع عنها ألم الذبح، وهذا مكابرة للضروريات.
وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً، بل إنما يقبح إذا لم لم يكن مسبوقاً بجناية، ولا ملحوقاً بعوض.
وهاهنا الله تعالى عوض هذه الجنايات بأعواض شريفة، فخرج هذا الذبح عن كونه ظُلْماً.
ويدلُّ على صحة ما قلناه أن ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألَم الفَصْد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حَسُنَ تحمُّل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذا القول في الذبح.
وقال أهل السُّنة : إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة.
فصل قال بعضهم :﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام﴾ مجمل ؛ لأن الإحْلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات، فتعذر إجراؤه على ظاهره، فلا بُدَّ من إضمار فعل، وليس إضمار الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها، أو بعظمها، أو صوفها، أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، فصارت الآية مجملة، إلا أن قوله تعالى :﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل : ٥] دل على أن المراد بقوله :﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾ إباحة الانتفاع من كل هذه الوجوه، والله أعلم.
[قوله ﴿إلا ما يتلى عليكم﴾ هذا مستثنى من " بهيمة الأنعام " والمعنى : ما يتلى عليكم تحريمه] وذلك قوله تعالى :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة : ٣] إلى قوله :﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة : ٣].
وفي هذا الاستثناء قولان :
١٦٦
أحدهما : أنه متصل.
والثاني : أنه منقطع حسب ما فُسر به المتلوُّ عليهم، كما سيأتي بيانه.
وعلى تقدير كونه [استثناء] متصلاً يجوز في محلّه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب ؛ لأنه استثناء متصل من موجب، ويجوز أن يرفع على أنه نعت لـ " بهيمة " على ما قرر في علم النحو.
ونقل ابن عطيَّة عن الكوفيين وجهين آخرين أحدهما : أنه يجوز رفعه على البدل من " بهيمة ".
والثاني : أن " لا " حرف عطف، وما بعدها عطف على ما قبلها، ثم قال : وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس، نحو : جاء الرجال إلا زيد، كأنك قلت : غير زيد، وقوله : وذلك ظاهره أنه مُشارٌ به إلى الوجهين : البدل والعطف.
وقوله : إلا من نكرة غير ظاهرة ؛ لأن البدل لا يجوز ألبتة من موجب عند أحد من الكوفيين [والبصريين.
ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً وأما العطف فذكره بعض الكوفيين].
وأما الذي اشترط البصريون فيه التنكير، أو ما قاربه، فإنما اشترطوه في النعت بـ " إلاَّ " فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرط النعت، فجعله شرطاً في البدل، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمه في قوله تعالى :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة : ٣] إلى آخره.
وإن أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمره، فيكون منقطعاً بمعنى " لكن " عند البصريين، وبمعنى " بل " عند الكوفيين.
وسيأتي بيان هذا المنقطع [بأكثر من هذا] في نصب " غير ".
قوله :" غَيْرَ " في نصبه خمسة أوجه : أحدها : أنه حال من الضمير المجرور في " لكم "، وهذا قول الجمهور، وإليه ذهب الزمخشري، وابن عطية وغيرهما.
وقد ضعف هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييدُ إحلال بهيمة الأنعام لهم بحال كونهم غَيْرَ محلِّي الصيد، وهم حرم ؛ إذْ يصير معناه :﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام﴾ [في حال كون انتفاء كونكم تحلون الصيد، وأنتم حرم، والغرض أنهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام]
١٦٧


الصفحة التالية
Icon