فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ
وقول امرئ القيس :[المتقارب] ١٩١٥ - وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبِ الرِّجَالِ
وَأفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عمْرٍو حُجُرْ
ومجيءُ " أفْعَلَ " على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لِسَانِ العربِ، فَمِنْ مجيءِ " أفْعَلَ " لبلوغ المكان، ودخوله قولُهم : أحْرَم الرجلُ، وأعْرَقَ، وأشْأمَ، وأيْمَنَ، وأتهم، وأنْجَدَ، إذا بلغ هذه الأماكنَ، وحَلَّ بها.
ومن مَجِيء " أفْعَل " بمعنى صار ذا كذا قولُهُمْ : أعْشَبَتِ الأرضُ وأبْقَلَتْ، وأغَدَّ البعير وألْبَنَتِ الشاة، وغيرُها، وأجْرَتِ الكلبُ، وأصْرَمَ النخل، وأتْلَتِ الناقةُ، وأحْصَدَ الزرعُ وأجْرَبَ الرجلُ، وأنْجبتِ المرأةُ.
وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصيدَ بوَصْفٍ بكونه مُحلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حِلٍّ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ استثناءً ثانياً، ولا يكون استثناءً من استثناء ؛ إذ لا يمكنُ ذلك لتناقضِ الحُكْم ؛ لأنَّ المستثنى من المحلل مُحرَّمٌ، [والمستثنى من المحرم
١٧٠
محلل] بل إنْ كان المعني بقوله : بهيمةَ الأنعامِ الأنعام أنفسها، فيكون استثناءً منقطعاً وإنْ كان المرادُ الظِّبَاءَ، وبَقَر الوحْشِ وحُمُرَهُ، فيكون استثناءً متصلاً على أحد تَفْسِيري المحل، استثنى الصَّيدَ الذي بلغ الحلّ في حالِ كونِهِم، مُحْرِمينَ.
فإنْ قُلْتَ : ما فائدةُ هذا الاستثناء بَعْد بُلُوغِ الحل، والصيدُ الذي في الحرم لا يحلّ أيضاً ؟ قُلْتُ : الصيدُ الذي في الحرمِ لا يَحِلُّ للمحرم ولا لِغَيْر المحْرِمِ، وإنَّما يحَلّ لِغَيْرِ المحرِمِ الصيدُ الذي في الحلّ، فنبَّهَ بأنَّهُ إذَا كَان الصيدُ [الذي] في الحّل يَحْرمُ على المُحْرم - وإنْ كان حَلالاً لِغَيْرِه - فأحْرَى أن يحرم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَمِ، وعلى هذا التفسير [يكون] قوله :﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ إنْ كان المرادُ بِهِ ما جاء بعده مِنْ قوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة : ٣] الآية استثناءً منقطعاً ؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه، فيَصيرُ التقديرُ : لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي : تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ [الأنعام] والوحوش، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع على التَّفْصِيلِ، فيَرْجِع " مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ " إلى " ثَمَانِيَة " الأزْوَاجِ، ويرجِعُ " غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ " إلى الوحوشِ ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ، وإذا لم يمكنْ ذلك، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ إلى الأوّلِ بوجهٍ ما رجع إلى الأولِ.
وقد نَصَّ النحويونَ : أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل، نحو : قام القومُ إلا زيداً إلا عمْراً إلا بَكْراً، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف " محلّي " بالياء، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ " مُحِلّ " من غير ياءٍ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك.
قلتُ : لا يعكّر ذلك على هذا التخريج ؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم :﴿لأَاْذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل : ٢١]، ﴿وَلأَوْضَعُواْ﴾ [التوبة : ٤٧]، ألفاً بَعْد لامِ الألف [وكتابتهم ﴿بِأَيْيْدٍ﴾ [الذاريات : ٤٧] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم " أولئك " بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ، وكِتَابتِهِمْ :" الصَّالِحَاتِ " [ونحوه] بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك.
١٧١


الصفحة التالية
Icon