المُشْرِكِينَ عن المسْجِدِ الحرامِ، وذلك مَنْسُوخٌ بقوْلهِ :﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ [التوبة : ٢٨] وهوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وُمجَاهِدٍ والحسَن وقتادَةَ.
وقال الشَّعْبيُّ : لم يُنْسخْ مِنْ سورةِ المائدةِ إلاَّ هذهِ الآية، وقال آخرُون : هذه الآيةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وهؤلاء لَهُم طَريقَانِ : الأوَّلُ : أنَّ الله تعالى أمَر في هذه الآية ألاَّ نُخيفَ مَنْ يَقْصُدُ بَيْتَهُ من المُسْلِمينَ، وحَرَّمَ عَلَيْنَا أخْذَ الْهَدْي مِنَ المُهْدين إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ لقوله أوّلِ الآية :﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ﴾ وهذا إنَّما يَلِيقُ بنُسُكِ المسلمينَ لا بنُسُكِ الكُفَّار، وقولُهُ آخِرِ الآية :﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ وهذا إنَّمَا يَلِيقُ بالمسلمِ لاَ بالْكافِرِ.
والثاني : قال أبُو مُسْلِم : المرادُ بالآيةِ الكفارُ الذين كَانُوا في عَهْد النبيِّ ﷺ فَلَمَّا زَالَ [الْعَهْدُ زَالَ] الحَظْرُ، وَلَزِمَ المُرَادُ بقوله :﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة : ٢٨].
قوله تعالى :﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ﴾ وقُرِئ " أحْلَلْتُم " وهي لُغَةٌ في " حَلَّ "، يُقَالُ : أحلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، كما يُقَالُ : حَلَّ.
وَقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ عِمْران وأبُو وَاقِدٍ والجَرَّاح بِكَسْرِ الْفَاءِ العَاطِفَةِ وهِيَ قَراءَةٌ ضَعِيفَةٌ مُشْكِلَةٌ.
وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أنَّ الكَسْرَ فِي الْفَاءِ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ [في] الابْتِدَاءِ.
وقال ابْنُ عَطِيَّةَ : هِيَ قِرَاءةٌ مُشْكِلَةٌ، وَمنْ توجيهها أنْ يكُونَ راعَى كَسْرَ ألف الوَصْلِ إذَا ابْتَدَأ فَكَسَر الْفَاءَ مُرَاعَاةً، وتَذَكُّراً لِكَسْرِ ألِفِ الْوَصْلِ.
وقال أبُو حَيَّان : وليس هُو عِنْدي كَسْراً مَحْضاً، بَلْ هو إمالةٌ مَحْضَةٌ لتوهُّمِ وُجُودِ كَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، كَمَا أمَالُوا " فإذَا " لِوُجُودِ كَسْرِ الهَمْزَة.
فصل هَذَا أمْرُ إبَاحَةٍ، أبَاحَ لِلْحُلاَّلِ أخْذَ الصَّيْدِ، وظَاهِرُ الأمْرِ وإنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فهو هنا للإبَاحَةِ، كقوله :﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ﴾ [الجمعة : ١٠]، وهو كقول القائِلَ :" لا تَدخُلَنَّ هذِهِ الدَّارَ حَتّى تُؤدِّيَ ثَمَنَها، فإذَا أدَّيْتَ فادْخُلْهَا " أيْ : فإذا أدَّيْتَ فقد
١٨٠
أبيحَ لك دُخُولُهَا، وحاصِلُ الكلام أنَّا إنَّما عَرَفْنَا أنَّ الأمرَ هُنَا لَمْ يُفد الوُجوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وهذه الآيةُ مُتَعلِّقَةٌ بقوله ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة : ١] يعني [إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِن] حل الاصطِيَادِ هُوَ الإحْرَامُ، فإذَا زَالَ الإحْرَامُ وَجَبَ أنْ يَزُول المنْعُ.
قوله سبحانه وتعالى :﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ قرأ الجمهور :" يَجْرمنكم " بفتحِ اليَاءِ مِنْ " جَرَمَ " ثُلاثياً، وَمَعْنَى " جَرَمَ " عِنْدَ الكِسَائِيِّ وثَعْلَبٍ " حَمَلَ "، يقال : جَرَمَهُ على كَذا، أيْ : حَمَلَهُ علَيْهِ.
قال الشاعر :[الكامل] ١٩١٨ - وَلَقَدْ طَعَنْت أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَة
[جَرَمَتْ فَزَارَة] بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٥
فَعَلى هذا التَّفْسِير يتعدَّى " جَرَم " لِوَاحدٍ، وهو الكافُ والميمُ، ويكونُ قولُهُ :" أَن تَعْتَدُواْ " عَلَى إسْقَاطِ حَرْفِ الخَفْضِ، وهو " عَلَى " أيْ : وَلاَ يَحْمِلنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ على اعْتِدَائِكُم عليْهِم، فَيَجِيءُ في مَحَلِّ " أنْ " الخلافُ المشْهُورُ، وإلى هذا المعْنَى ذَهَب ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادَةُ.
ومَعْنَاهُ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرَّاءِ : كسب، وَمِنْهُ فُلانٌ جَريمةُ أهْلِهِ أيْ : كَاسِبُهُم.
وعَنِ الكِسَائيّ - أيضاً - أنَّ جَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنَى : كَسَبَ غَيْرَهُ فَالْجَرِيمَةُ والجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ، وأجْرَمَ فُلانٌ أيْ : اكْتَسَبَ الإثْمَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ :[الوافر] ١٩١٩ - جرِيمَةُ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ
تَرَى العِظَام ما جَمَعتْ صَلِيبا
أيْ : كَاسِبٌ قُوَّةً، والصَّلِيبُ الوَدَكُ.
قال ابنُ فَارِسٍ : يُقَالُ جَرَمَ وأجْرَمَ، ولا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ : لا بُدَّ وَلاَ مَحَالَةَ [وأصْلُه] مِنْ جَرَمَ أيْ : كَسَبَ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أحدهُمَا : أنَّهُ مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ.
١٨١


الصفحة التالية
Icon