وأما الخنزيرُ فقال العلماءُ : الغذاءُ يصيرُ جُزْءاً من جوهرِ المتغذِّي ولا بُدَّ أنْ يَحْصُلَ لِلْمُتغذِي أخلاقٌ وصفاتٌ مِنْ جِنْسِ ما كان حَاصِلاً في الغذاء، والخنزيرُ مَطْبوعٌ على حِرْصٍ عَظيمٍ ورغبة شديدةٍ في المُشْتهياتِ، فحرَّمَ اللَّهُ أكلهُ على الإنسانِ لِئلاَّ يَتَكيّفَ بِتلْكَ الكيفيّةِ ؛ وذلك لأنَّ الفرنج لما وَاظَبُوا على أكْلِ لَحْمِ الخنزيرِ أوْرَثَهُمُ الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المُشْتهياتِ، وأورثهم عدم الغيرةِ، [فإنّ الخِنْزِيرَ يَرَى الذّكرَ من الخنزيرِ يَنْزُو على الأنْثَى التي لَهُ لا يتعرض إليه ؛ لعدم الغَيْرةِ، وقد] تقدمَ الكلام على الخنزيرِ واشتقاقِهِ في سورة البقرة.
وأمَّا الشاةُ فإنها حيوانٌ في غَايَةِ السَّلاَمَةِ، وكأنَّها ذَاتُ عَارِيَةٍ عَنْ جَمِيعِ الأخْلاقِ، فلذلك لا يَحْصُلُ للإنسانِ بِسَبَبِ أكْلِها كَيْفِيَّةٌ أجْنَبِيَّةٌ عن أحوالِ الإنسانِ.
وأمَّا ما ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾، والإهلالُ رَفْع الصوتِ، ومنه يقالُ : فلانٌ أهَلَّ بالحجِّ إذَا لَبَّى، ومِنْهُ استهلالُ الصَّبِي وهو صراخُهُ إذا وُلِد، وكانوا يقولُونَ عند الذَّبْح باسم اللاَّتِ والعُزَّى، فحرم الله ذلك، وقدِّمَ هنا لَفْظُ الجلالةِ في قوله :﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ وأخِّرتْ في البقرة [آية ١٧٣] ؛ لأنَّها هناك فاصلةٌ، أو تُشْبِهُ الفاصِلَةَ بخلاف هاهنا، فإنَّ بَعْدَها مَعْطُوفاتٍ.
والمنخنِقَةُ وهي التي تموتُ خَنْقاً، وهو حَبْسُ النَّفَسِ سَواءٌ فعل بها ذلك [آدمِيٌّ أو] اتفق لها ذلك في حَبْلٍ أوْ بين عُودَيْنِ أو نحوه.
وذكر قتادةُ أنَّ أهل الجاهليةِ كانوا يَخْنُقُونَ الشاةَ وغيرَها، فإذا ماتَتْ أكَلُوها، وذكر نحوه ابنُ عباسٍ.
والمَوْقُوذَةُ : وهي التي وُقذَتْ أي : ضُربَتْ حتى ماتت من وَقَذَه أيْ ضَرَبَهُ حتى اسْتَرْخَى، ومنه وَقَذََهُ النُّعَاسُ أيْ : غلبه ووقذه الحُلُم : أيْ : سكنه وكأنَّ المادة دالَّةٌ على سُكُونٍ واسْتِرخاءٍ، ويدل في الموقوذةِ ما رُمِيَ بالبندقِ فماتَ، وهي - أيضاً - في مَعْنى الميتةِ وفي معنى المنخنقةِ، فإنها ماتَتْ ولم يَسِلْ دَمُهَا.
والمتردِّيَةُ : من تَرَدَّى، أي : سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ فَهَلَكَ، ويُقالُ : ما يُدْرَى أين " ردَى " ؟ أيْ : ذَهَبَ، ورَدَى وتَرَدَّى بمعنى هَلكَ.
قال تعالى :﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾ [الليل : ١١]، والمتردِّي أنْوَاعٌ : فالمترديةُ هي التي تسقطُ مِنْ جَبَلٍ أو مَوْضِعٍ مُشْرِفٍ أو في بِئْر فتموت، فهذه مَيْتَةٌ، لأنَّها ماتَتْ وما سَال
١٨٨
منها الدمُ، ويدخل فيه إذا أصابه سَهْمٌ وهو في الجبل فَسَقَطَ على الأرض ؛ فإنه يُحَرَّمُ أكْلُه ؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ ماتَ بالتَّرَدِّي أوْ بالسَّهْم.
ودخلتِ الهاءُ في هذه الكلمةِ ؛ لأنّ المنخنقةَ هي الشاةُ المنخنقةُ، كأنه قِيلَ : حُرِّمَتْ عليكم الشاةُ المنخنقةُ والموْقوذَةُ والمترديةُ، وخَصَّ الشاة ؛ لأنَّها من أعَمِّ [ما يَأكُلُ] الناسُ، والكلامُ يُخَرَّجُ على الأعَمِّ الأغْلَبِ، ويكُونُ المرادُ هو الكُلَّ.
و " النَّطِيحَةُ " " فَعيلَة " بمعنى " مَفْعُولة "، وكان مِنْ حَقِّها ألاَّ تَدْخُلَها تاءُ التأنيثِ كقَتِيل وجَريح، إلاَّ أنَّها جَرَتْ مَجْرَى الأسماءِ، أوْ لأنَّها لم يُذْكَرْ مَوصُوفُها ؛ لأنك إنْ لَمْ تُدْخِل الهاءَ لَمْ يُعرَفْ أرَجُلٌ هُوَ أمِ امْرَأةٌ، ومثلُهُ : الذَّبِيحَةُ والنَّسيكَةُ.
كذا قاله أبُو البَقاءِ، وفيه نظر ؛ لأنَّهُم [إنَّما] يلحقون التاءَ إذا لم يذكر الموصوفُ لأجل اللَّبْسِ، نَحْوَ : مررت بِقَتيلةِ بَنِي فُلانٍ، لئلا يلتبس بالمؤنثِ وهنا اللَّبْسُ مُنْتفٍ، وأيضاً فحكم الذكرِ والأنْثَى في هذا سَوَاءٌ.
والنَّطِيحَةُ هي التي تَنْطَحُها الأخْرَى فتموت، وهذه - أيضاً - لأنها ماتت من غير سَيَلانِ الدَّم.
قوله تعالى :﴿وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ " مَا " الأولى بمعنى " الَّذِي "، وعائِدُهُ محذُوفٌ، أيْ : وما أكلَهُ السّبُعُ، ومحلُّ هذا الموصولِ الرفعُ عَطْفاً على مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُه، وهذا غيرُ ماشٍ على ظاهره ؛ لأنَّ ما أكله السبعُ وفرغ منه لا يُذَكَّى، فلا بُدَّ من حذف.
ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ : وما أكَلَ بَعْضَهُ السبعُ.
وقرأ الحسنُ والفياض وأبو حَيْوة :" السَّبْعُ " بسكون الباءِ، وهو تسكين المضموم، ونقل فتح السين والباء معاً.
والسَّبُعُ : كُلُّ ذِي نَابٍ ومخْلب كالأسدِ والنَّمرِ، ويطلقُ على ذِي المِخْلب من الطيور قال :[الخفيف] ١٩٢٤ - وسبَاعُ الطَّيْر تَغْدُو بِطَاناً
[تَتَخَطَّاهُمُ فَمَا تَسْتقلُّ]
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٨٧
١٨٩


الصفحة التالية
Icon