ومنه الحديث :" اللهُمَّ سَلِّطْ عليهِ كَلْباً مِنْ كِلابِكَ " فأكله الأسَدُ.
قال أبو حيَّان : وهذا الاشتقاق لا يَصِحُّ ؛ لأنَّ كونَ الأسَدِ كَلْباً هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلّم، والجوارح هي سِباعٌ بنفسها، وكلاب بنفسها لا بجعل المُعَلِمِّ، ولا طَائِلَ تحت هذا الرَّدِّ.
وقرئ " مُكْلِبين " بتخفيف اللام، وفَعَّل وأفعل قد يشتركانِ في معنى واحد، إلا أنَّ " كَلَّب " بالتَّشْدِيدِ معناه : عَلَّمها وضَرَّاها، وأكْلب معناه صار ذا كِلاَب.
على أن الزجاج قال : يقال : رجلُ مُكلِّب يعني بالتشديد، ومُكْلِب يعني [من] أكلب وكلاّب يعني بتضعيف اللام أي : صاحب كِلاَبٍ.
وجاءت جملة الجواب هنا فعلية، وجملة السؤال هنا اسمية، وهي ماذا أحل ؟ فهي جواب لها من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ ؛ إذ لم يتطابقا في الجِنْس.
والكلاَّب والمكلِّب هو الذي يعلم الكلاب الصيد.
فمكلِّب صَاحِب الكلابِ كمعلِّم : صاحبِ التَّعليم، ومؤدِّب : صاحب التّأديب.
فصل معنى الآيةِ وأحِلَّ لكم صَيْدُ ما علمتم من الجوارحِ.
واختلفُوا في هذه الجَوَارحِ، فقال الضَّحاكُ والسُّدِّيُّ :[هي] الكلاب دون غَيْرِها، ولا يحلُّ ما صاده غير الكلب إلا أن يُدرِكَ ذكاته، ولا عملَ على هذا، بل عامَّةُ أهلِ العلمِ على أنَّ المرادَ من الجَوَارِحِ الكواسب من سباع البَهَائِمِ كالفهد، والنمر، والكلب، ومن سباعِ الطَّيْر كالبازي والعُقابِ والصَّقْرِ ونحوها مما يقبل التعليم فيحلُّ صيد جميعها.
٢٠٦
قوله سبحانه وتعالى :" تُعَلِّمُونَهُنَّ " فيه أربعةُ أوْجُهٍ : أحدها : أنَّهَا جُملةٌ مستأنَفَةٌ.
الثاني : أنَّهَا جملة في محلِّ نصبٍ على أنَّها حال ثانية من فاعل " عَلَّمتُم ".
ومنع أبُو البقاء ذلك ؛ لأنَّه لا يجيز للعامل أنْ يعمل في حالين، وتقدَّم الكلامُ في ذلك.
الثالث : أنَّها حال من الضَّميرِ المستكنِّ في " مكلِّبين " فتكونُ حالاً من حالٍ، وتُسمَّى المتداخلة وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكِّدة ؛ لأن معناها مفهوم من " علمتم "، ومِنْ " مُكَلِّبين ".
الرابعُ : أن تكون جملةً اعتراضيةً، وهذا على جَعْلِ ما شرطيّة أو موصولة خبرها " فَكُلُوا " فيكونُ قد اعترض بين الشَّرْط وجوابه، أو بين المبتدأ وخبره.
فإن قيل : هَلْ يجوز وجهٌ خَامِسٌ، وهو أن تكون هذه الجملة حالاً من " الجَوَارِحِ "، أو من الجوارح حال كوْنِهَا تُعلمُونَهُنَّ ؛ لأنَّ في الجملة ضمير ذِي الحلالِ ؟ فالجوابُ : أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنه يؤدِّي إلى الفَصْلِ بين هذه الحال وبين صاحبها بأجنبِيٍّ، وهو مُكَلِّبينَ الذي هو حال من فاعل " علمتم ".
وأنث [الضمير في " تُعَلِّمُونَهُنَّ " ] مراعاة للفظِ الجوارحِ ؛ إذْ هو جمع جارحةٍ، ومعنى " تُعَلِّمُونَهُنَّ " تؤدبونهن أدبَ أخذ الصَّيد، ﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ أي من العلم الذي " عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ".
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٠٣
قوله تعالى :[ ﴿الْيَوْمَ] أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ الآية.
الكلامُ فيه كالكلام فيما قَبْلَهُ، وزعم قوم أنَّ المراد بالثلاثة أيام المذكورة هنا وقت واحد، وإنَّما كرره توكيداً، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حَسُنَ تكريره، وليس بشيء.
وادَّعَى بعضهم أنَّ في الكلام تَقْدِيماً وتأخيراً، وأنَّ الأصْلَ ﴿فاذْكُرُوا اسم الله عليه﴾ ﴿وكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ وهذا يشبه [قول] من يعيد الضمير على الجوارح المرسلة.
قوله تعالى :﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ فيه وجهان : أصحهما : أنَّهُ مبتدأ، وخبره " حِلٌّ لَّكُمْ " وأبرز الإخبار بذلك في جملة اسمية اعتناءً بالسؤال عنه.
وأجاز أبُو البقاء أنْ يكون مرفوعاً عَطْفاً على مرفوع ما لم يسم فاعله وهو " الطيِّبَات "، وجعل قوله :" حِلّ لَّكُم " خبر مبتدأ محذوف، وهذا ينبغي ألا يجوز البتة لتقدير ما لا يحتاج إليه مع ذهاب بلاغة الكلامِ.
وقوله :﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ مبتدأ وخبر، وقياس قول أبي البقاءِ أن يكون " طَعَام " عَطْفاً على ما قبله، " وحلّ " خبر مبتدأ محذوف، ولم يذكره، كأنه استشعر الثواب.
٢١٠