وثانيها : قوله - عليه الصلاة والسلام - :" المُؤمِنُ لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه لا حَيَّا ولا مَيِّتاً ".
وثالثها : أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّ بَدَن المُحْدِثِ لو كَانَ رَطْباً، فأصَابَهُ ثَوْبٌ لَمْ يَنْجس الثَّوْب، ولَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وصَلَّى به لم تفسد صلاتُه.
ورابعها : لو كان الحدثُ يُوجِبُ نجاسَةُ الأعْضَاءِ، ثم كَانَ تَطْهِيرُ الأعْضَاءِ الأرْبَعَة يُوجِبُ طَهَارة كُل الأعْضَاء، لوَجَبَ ألاَّ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ باخْتِلاَف الشَّرَائِعِ، والأمْرُ لَيْس كذلِكَ.
وخامسها : أنَّ خُروج النَّجَاسَةِ من مَوْضِع، كيف يُوجِبُ تَنَجُّسَ مَوضِعٍ آخَر ؟.
وسادسها : أنَّ المَسْح على الخُفَّيْنِ قَائِمٌ مقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْن، ومَعْلُومٌ أنَّ هذا لا يُزِيلُ شَيْئاً ألْبَتَّةَ عن الرِّجْلَين.
وسابعها : أنَّ الذي يُرَاد زوالُهُ إنْ كانَ جِسْماً، فالحسّ يَشْهَدُ ببُطْلاَن ذلك، وإنْ كان عَرَضاً فَهُوَ مُحَالٌ، لأنَّ انتِقَالَ الأعْرَاضِ مُحَالٌ.
القولُ الثاني : أنَّ المُرَادَ به التَّطْهِير من المَعَاصِي والذُّنُوب، وهو المُرَادُ بقوله - عليه الصلاة والسلام - :" إذَا تَوَضَّأ العَبْدُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ من وَجْهِهِ وكذا يَدَيْهِ ورَأسِهِ ورِجْلَيْه ".
وقوله تعالى :﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾.
قال مُحَمَّد بن كَعْبٍ : إتمَامُ النِّعْمةِ تَكْفِيرُ الخَطَايَا بالوُضُوءِ، وهَذَا الكَلاَمُ مُتَعَلِّق بما ذَكَرَهُ أوَّل السّورةِ من إبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ من المَطَاعِم والمَنَاكِح، ثُمَّ بَيَّن بَعْدَه كَيْفِيَّة فَرْضِ الوُضُوءِ، كأنَّهُ قال : إنَّما ذَكَرْت ذلِكَ لتتمَّ النَّعْمَة المَذْكُورَةُ أوَّلاً، وهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وهذه النِّعْمَةُ المَذْكُورة الثَّانِيَةُ وهي نِعْمَة الدِّين.
وقيل : المُرادُ ﴿لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالرخص بالتِّيَمُم، والتَّخْفِيفِ في حالِ المَرَضِ والسَّفَر، فاسْتَدَلُّوا بذلك على أنَّه تعالى يُخَفِّفْ عَنْكُمْ يَوْمَ القيامةِ، بأنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ.
ويَتَجَاوَز عَن سَيِّئَاتِكُمْ.
قوله - جلا وعلا - :" عَلَيْكُم " فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ : أظهرُهَا : أنَّهُ مُتَعلِّقٌ بـ " يُتِمّ ".
والثاني : أنَّهُ مُتعلِّق بـ " نِعْمَتِهِ ".
٢٣٩
والثالث : أنَّهُ مُتَعلِّقٌ بمحذُوفٍ على أنَّهُ حالٌ من " نِعْمَتِهِ ".
ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْن أبُو البَقَاءِ، وهَذِه الآيَةُ بِخِلاف التي قَبْلَها [في قوله] :﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة : ٣]، حَيْثُ امْتَنَعَ تَعَلُّقُ الجَارِّ بالنِّعْمَةِ ؛ لتَقَدُّم مَعْمُول المصْدَر [عليه] كما تَقَدَّم بَيَانُهُ.
قال الزَّمَخشَرِيُّ : وقُرِئَ " فأطْهِرُوا " أي : أطْهِرُوا [أبْدَانَكُمْ]، وكَذِلِكَ " لِيُطْهِرَكُمْ "، يعني : أنَّهُ قُرِئَ " أطْهِرُوا " أمْرٌ من " أطْهِرْ " رُبَاعِيّاً كـ " أكْرِمْ "، ونسب النَّاسُ القِرَاءَةَ الثَّانِية، أعني قوله :" لِيُطْهِرَكُم " لسَعِيدِ بن المُسَيِّب.
ثم قال تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، والكَلاَمُ في لَعَلَّ مَذْكُور في البقرة عند قوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة : ١٨٣].
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢١٦
قوله - سبحانه - :﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
لما ذَكَر التَّكَالِيفُ أرْدَفَهُ بما يُوجِبُ عَلَيْهِمْ القبُول والانْقِيَاد، وذلك مِن وَجْهَيْن : الأوَّلُ : كَثْرَةُ نِعَم اللَّهِ عَلَيْهِم ؛ لأنَّ كَثْرَة النِّعَمِ تُوجِبُ على المُنْعِمِ عَلَيْه الاشْتِغَالَ بِخِدْمَةِ المُنْعمِ، والانْقِيَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيه.
وقال :" نِعْمَةَ اللَّه " ولمْ يَقُلْ " نِعَم اللَّهِ " ؛ لأنَّ هذا الجِنْسَ لا يَقْدِرُ عَلَيْه غير اللَّه ؛ لأنَّ نِعْمَة الحَيَاةِ، والصِّحَّة، والعَقْل، والهِدَايَةِ، والصَّوْن من الآفَاتِ، وإيصَال الخَيْرَاتِ في الدُّنْيَا والآخِرَة شيء لا يَعْلَمُهُ إلاَّ الله تعالى، وإنَّما المُرادُ [التَّأمُّل] في هذا النَّوْع مِن حَيْثُ إنَّهُ مُمْتَازٌ عن نِعْمَةِ غَيْرِهِ.
والوجه الثاني في السببِ المُوجبِ للانْقِيَادِ للتَّكَالِيفِ : هُوَ المِيثَاقُ الذي واثَقَكُمْ بِهِ.
فإن قِيلَ :[قوله] ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ مشعِرٌ بسَبْقِ النِّسْيَان : وكَيْفَ يُمْكِن نِسْيَانُها [مع أنها] مُتَوَاتِرَةٌ متَوالِيَةٌ [علينا] في جَميعِ السَّاعَاتِ والأوْقَاتِ ؟ فالجَوابُ : أنَّها لِكَثْرتها وتعاقُبها صارتْ كالأمْرِ المُعْتَاد، فصارت غَلَبَةُ ظُهُورِهَا وكَثْرتها سَبباً لِوُقوعِهَا مَحَلَّ النِّسْيَان.
٢٤٠