وعلى ما أجَازَهُ أبو البَقَاء أن تكون المَسألَةُ من باب الإعْمَال، ويكون قد وجد التَّنَازع بين ثلاثةِ عوامِلٍ، ويكون من إعْمَال الثَّالِث للحَذْفِ من الأوَّل والثَّاني، وتقدَّم تَحْرِير ذلك.
و " أغْرَيْنَا " من أغْرَاه بكذا أي : ألزمه إياه، وأصْلُه من الغِرَاء الذي يُلْصَقُ به، ولامُهُ وَاوٌ [فالأصلُ] أغْرَوْنَا، وإنما قلبت الواوُ ياءً ؛ لوقوعها رابعَةٌ [كـ " أغْوَيْنَا "، ]، ومنه قولهم : سَهْمٌ مغروٌّ أي : معمول بالغِرَاء، يقال : غَرِيَ بكذا يغْرى غَرًى وغرَاء، فإذا أريد تَعْدِيته عُدِّي بالهمزة، فقيل : أغْرَيْتُه بكذا.
والضمير في " بَيْنَهُم " يحتمل أن يعُود على ﴿الَّذِينَ قَالُواْ : إِنَّا نَصَارَى ﴾، وأن يعود على اليَهُود المتقدمين الذِكْر، وبكلٍّ قال جماعَةٌ كَمَا [قَدَّمْنَا] وهذا الكلامُ مَعْطُوفٌ على الكلام قَبْلَه من قوله :﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَآئِيلَ﴾ [المائدة : ١٢] أي : ولقد أخَذَ الله ميثاقَ بني إسْرَائيل، وأخَذْنا من الَّذين قالوا.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٥٥
لما حكى عن اليهود والنَّصارى نَقْضَ العَهْد، دَعَاهُم بعد ذلك إلى الإيمان بِمُحَمَّد ﷺ، فقال :﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ وأراد اليَهُود والنَّصَارى، وَوَحَّد " الكِتَاب " إرادة للْجِنْس.
ثم قال :﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ﴾.
قال ابن عباس : أخْفُوا آية الرَّجْمِ من التَّوْراة وبَيَّنَها الرَّسُول - عليه السلام - لهم، وهو لَمْ يَقْرأ [كتاباً] ولم يتعلَّم علماً من أحَد، وهذه مُعْجِزة، وأخفوا صِفَةَ مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - في الإنْجِيلِ، وغير ذَلِك.
قوله :" يُبَيِّن " في محلِّ نَصْب على الحَال من " رَسُولُنَا "، أي : جَاءَكم رسولُنا في هذه الحالة، و " ممَّا يتعلَّق بَمْحذُوف ؛ لأنَّه صِفَة لـ " كَثيراً "، و " مَا " موصولةٌ اسميَّة، و " تُخْفُون " صلتُهَا، والعائد مَحْذُوفٌ، أي : من الذين كُنْتُم تُخْفُونَهُ، و " مِن الكِتَابِ " متعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حالٌ من العَائِد المَحْذُوف.
٢٥٨
وقوله :﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾، أي : لا يُظْهِر كثيراً مما كُنْتُم تُخْفُون من الكِتَاب، فلا يتعرَّض لكم، ولا يُؤاخذكم به ؛ لأنَّه لا حاجةَ له إلى إظْهَارِهِ، والفَائِدةُ في ذلك : أنهم علموا كَوْنَ الرَّسُول عالماً بكُلِّ ما يُخْفُونَه، فيصير ذلك داعياً لهم إلى تَرْكِ الإخْفَاء، لئلا يفتضح أمرهم.
والضَّمِير في " يُبَيِّنُ " و " يَعْفُو " يعود على الرَّسُول.
وقد جوَّز قومٌ أن يعود على الله تعالى، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ :" يُبَيِّنُ " من الإعراب، ويمتنعُ أن يكون حَالاً من " رَسُولُنَا " لعدم الرَّابِط، وصِفَةُ " كَثِير " محذوفة لِلْعِلْمِ بها، وتَقْدِيرُه : عن كثير من ذُنُوبِكُمْ، وحذف الصِّفَة قَلِيلٌ.
قوله :﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ﴾ لا محلَّ له [من الإعراب] لاستئنَافِه، و " من اللَّه " يَجُوز أن يتعلق بـ " جاء "، وأن يتعلَّق بمحذُوف على أنَّه حَالٌ من " نُورٌ "، قدِّمت صفة النَّكرة عليها، فنُصِبَتْ حالاً.
فصل في معنى الآية والمراد بالنُّور : محمد - عليه الصلاة والسلام -، وبالكتاب : القُرْآن، وقيل : المراد بالنُّور : الإسلام، وبالكِتَاب القُرْآن، وقيل : النُّور والكتاب والقُرْآن، وهذا ضعيفُ ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجبُ التَّغَاير.
قوله تعالى :" يَهْدِي " فيه خَمْسَة أوجه : أظهرها : أنَّه في محلِّ رفْع ؛ لأنَّهُ صفة ثَانِيَةٌ لـ " كِتَاب "، وصفَهُ بالمفرد ثم بالْجُمْلَة، وهو الأصْلُ.
الثاني : أن يكون صِفَةً أيضاً لكن لـ " نُورٌ "، وصَفَهُ بالمُفْرَد ثم بالجُمْلَة، ذكره أبو البقاء وفيه نظر، إذ القَاعِدَةُ أنَّه إذا اجْتَمَعَتِ التَّوابع قُدِّم النَّعْت على عَطْف النَّسَق، تقول جاء زَيْدٌ العَاقِل وعَمْرو، ولا تقُولُ : جاء زيْدٌ وعمرو العَاقِل ؛ لأنَّ فيه إلباساً أيضاً.
الثالث : أن يكون حالاً من " كِتَاب "، لأن النَّكرة لما تخصَّصَت بالوَصْف قَرُبت من المَعْرِفة.
وقياس قول أبي البقاء أنَّه يجوز أن يكون [حالاً من " نُورٌ "، كما جاز أن يكُون] صِفَة لَهُ.
٢٥٩