أحدُها : أنه حَالٌ من فاعل " اتْلُ " أي : اتلُ ذلك حال كونك مُلْتَبساً بالحقِّ أي : بالصِّدق، وموافقاً لما في التَّوْراة والإنْجِيل.
والثاني : أنه حال من مَفْعُوله وهي " نَبَأ "، أي : اتلُ نبأهُمَا مُلْتَبساً بالصِّدْقِ مُوافِقاً لما في كُتُب الأوَّلين لتثبت عليهم الحُجَّةُ برسالتك.
الثالث : أنه صِفَةٌ لمصدر " اتْلُ "، أي : اتْلُ ذلك تلاوةً مُلْتَبِسة بالحقِّ والصِّدٌ كافَّة.
وَالزَّمَخْشَرِيُّ به بدأ، وعلى الأوْجُهِ الثلاثة فـ " البَاءُ " للمُصَاحبة وهي متعلِّقَة بمحذُوف.
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بتسكين الميم من " آدَم " قبل بَاءِ " بالْحَقِّ "، وكذا كل مِيمٍ قبلها مُتَحرك، وبعدها بَاء، ومعنى الكلام : واتْلُ عليهم نبأ ابْنَيْ آدم بالغَرض [الصحيح]، وهو تَقْبِيح الحسد، والبَغْي وقيل : لِيَعْتَبِرُو به لا لِيَحمِلُوهُ على اللَّعِبِ، كالأقاصيص التي لا فائدة فيها، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المقصود من ذكر القصص العبرةُ لا مجرَّد الحكاية، لقوله تعالى :﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف : ١١١].
قوله تعالى :﴿إِذْ قَرَّبَا [قُرْبَاناً]﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : وبه بدأ الزَّمخشريُّ، وأبو البقاء : أن يكون متعلِّقاً بنفس النَّبأ، أي : قصّتُهما، وحديثهما في ذلك الوَقْت، وهذا وَاضِح.
والثاني : أنه بَدلٌ من " نبأ " على حَذْف مضافٍ، تقديره :" واتْلُ " عَلَيْهِم النَّبأ ذلك الوقت، كذا قدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ.
قال أبُو حَيَّان :" ولا يجُوز ما ذكر ؛ لأن " إذْ " لا يُضَاف إليها إلا الزَّمانُ و " نبأ " ليس بزمان.
الثالث : ذكره أبُو البَقَاءِ [أنه حال من " نبأ " [وعلى هذا فيتعلق بِمَحذُوف، لكنَّ هذا الوجه غَيْر وَاضِح.
قال أبو البَقَاء :] ولا يجوز أن يكون ظرفاً لـ " اتْلُ " ؛ قلت : لأنَّ الفعل مستقبل، و " إذ " وقت ماضٍ، فكيف يَتلاقَيَان ؟ و " الْقُرْبَانُ " فيه احْتِمَالان :
٢٨٥
أحدهما : وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ :" أنه اسم لما يُتَقَرَّبُ به، كما أنَّ الْحُلْوَانَ اسم ما يُحَلَّى أو يُعْطى ".
يقال :" قَرَّبَ صَدَقةً وتقرَّب بها " ؛ لأن " تقرَّب " مطواع " قرَّب ".
قال الأصْمَعِيُّ :[تقربوا] " قِرْفَ القَمع " فيعدَّى بالباء حتى يكون بمعنى : قَرَّبَ، أي : فيكون قوله :﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً﴾ يَطْلُبُ مُطَاوِعاً له، والتَّقْدِير إذْ قَرَّبَاهُ، فتقرَّبا بِهِ وفيه بُعْدٌ.
قال أبُو حَيَّان :" وليس تقرَّب بصدقة مطاوع " قَرَّب صدقة " لاتحاد فاعل الفعلين، والمُطاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فيها الفاعل يكونُ من أحدهما فعل، ومن الآخَرِ انفعال، نحو : كَسَرْتُه فانكسر، وفَلَقْتُه فانْفَلَق، فليس قَرَّبَ صَدَقَةً، وتقرَّبَ بها، من هذا البَابِ، فهو غلط فَاحِشٌ ".
قال شهاب الدِّين : وفيما قاله الشَّيْخ نظر ؛ لأنَّا نُسَلِّم هذه القاعدة.
والاحتمال الثاني : أن يكون في الأصْل مَصْدراً، ثم أطلق على الشيء المُتقرّب به، كقولهم " نَسْج اليَمَن "، و " ضَرْب الأمير ".
ويُؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنِّ، والموضعُ موضعُ تَثْنِية ؛ لأنَّ كلاً من قَابيل وهَابيل له قُرْبان يَخُصُّه، فالأصل : إذ قَرَّبا قُرْبَانين ولأنه لم يُثَنِّ [لأنه مصدر في الأصل، وللقائل بأنه اسم ما يتقرّب به لا مصدر أن يقول : إنما لم يُثَنِّ] ؛ لأن المعنى - كما قاله أبو عَلِيّ الفَارسيّ - : إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قُرْبَاناً، كقوله تعالى :﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور : ٤] أي : كل واحد منهم.
قال ابن الخطيب : جَمَعَها في الفِعْل، وأفرد الاسْم ليستدل بِفِعْلهما على أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما قُرْباناً.
وقيل : إنَّ القُرْبَان اسم جنس فهو يَصْلُح للوَاحِد والعَدَد.
وقوله تعالى :﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾.
قال أكثر المُفَسِّرِين : كان علامَةُ القبول أن تأكله النَّار، وقال مُجَاهد : علامة الردِّ أن تأكله النَّار.
٢٨٦


الصفحة التالية
Icon