فصل في معنى الآية ومعنى قوله " بَسَطْتَ " أي : مَددْتَ إليَّ يدكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنَا بباسطٍ يدي إليْكَ لأقْتُلَكَ إنِّي أخافُ الله ربَّ العالمِين " قال عبدُ الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : وايمُ الله إن كان المَقْتُول أشدَّ الرَّجُلَين، ولكن مَنَعَهُ التَّحَرُّج أن يَبْسُطَ إلى أخيه يده، وهذا في الشَّرْعِ جَائِز لمن أُريد قَتْلُهُ أن يَنْقَاد ويَسْتَسْلِم طلباً للأجْر، كما فعل عُثْمان - رضي الله تعالى عنه - وقال النبي ﷺ لمحمَّد بن مسلمة - رضي الله عنه - " ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المَقْتُول ولا تكن عبد الله القاتِل ".
وقال مجاهد :" كتب عليهم في ذلك الوَقْتِ إذا أراد رَجُلٌ قَتْلَ رجل أنَّه لا يَمْتَنِع ويصْبر ".
قوله تعالى :﴿إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي﴾، فيه ثلاثة تأوِيلات : أحدها : على حَذْفِ همزة الاستفهام تقديره : أإنِّي أريد ؛ وهو استفهام إنكَار ؛ لأن إرادة المَعْصِيَة قبيحَةٌ، ومن الأنْبِيَاء أقبح ؛ فهم معْصُومُون عن ذلك، ويؤيِّد هذا التَّأويل قراءة من قرأ " أنَّى أريد " بفتح النون، وهي " أنَّى " التي بمعنى " كَيْفَ "، أي : كيف أريد ذلك.
والثاني : أنَّ " لا " محذوفةٌ تقديره : إني أريدُ أن لا تَبُوء، كقوله تعالى :﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء : ١٧٦]، وقوله تعالى :﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل : ١٥]، أي ألاّ تضلّوا وألا تميد وهو مستَفِيضٌ وهذا أيضاً فرار من إثْبَات الإرَادَة له، وضعَّفَ بعضهم هذا التَّأويل بقوله - عليه الصلاة والسلام - :" لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كانَ على ابْنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها ؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ ".
فثبت بهذا أن الإثْمَ حاصلٌ، وهذا الَّذي ضعَّفه به غير لاَزِم ؛ لأن قائِل هذه المقالة يقول : لا يلزم من عَدَمِ إرادَته الإثْم لأخيه عَدَم الإثم، بل قد يريد عدمه ويَقَع.
٢٨٩
الثالث : أن الإرادة على حَالها، وهي : إمَّا إرادة مَجَازية، أو حقيقيَّة على حَسَبِ اختلاف المُفسِّرين في ذلك، وجَاءَت إرادة ذلك به لمعانٍ ذكرُها، من جملتها : أنَّه ظهرت له قَرائِن تدلُّ على قرب أجلهِ، وأنَّ أخاه كافر، وإرادة العُقُوبَة بالكافر حَسَنة.
وقوله :" بِإثْمِي " في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " تبُوء " أي : ترجعُ حاملاً له ومُلْتبساً به، وقد تقدم نَظِيرُه في قوله ﴿فَبَآءُو بِغَضَبٍ﴾ [البقرة : ٩٠] وقالوا : لا بُدَّ من مُضافٍ، فقدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ " بمثلَ إثمي " قال :" على الاتِّسَاع في الكلام، كما تقول : قرأت قراءة فلان، وكتبت كِتَابَته ".
وقدَّره بعضهم " بإثْمِ قَتْلِي، وإثم معصِيَتك التي لم يُقبل لأجلها قُرْبَانك، وإثْم حسدك ".
وقيل : معناه إنِّي أريد أن تَبُوءَ بعقاب قَتْلي فتكون إرادة صَحِيحَة ؛ لأنَّها موافقة لِحُكم الله - عزَّ وجلَّ -، ولا يكون هذا إرادة للقَتْل، بل لموجِبِ القتل من الإثْم والعِقَاب رُوِي أن الظَّالم إذا لم يَجِد يوم القِيَامة ما يرضي خَصْمَه، أُخِذَ من سيِّئَات المَظْلُوم وحمل على الظَّالم، فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال : إنِّي أُريد أن تَبُوء بإثْمي في قَتْلِك، وهذا يَصْلُح جواباً.
قوله " فَطَوَّعَتْ " الجمهورُ على " طَوَّعَتْ " بتشديد الواو من غير ألف بمعنى " سَهلت وبعثت " أي : جَعَلْته سهلاً، تقديره : بعثت له نفسه أنَّ قتل أخيه طَوْعاً سهل عليه.
قال الزَّمَخْشَرِي :" وسَّعَتْه ويسَّرَتْه من طاعَ له المرْتَعُ إذ اتَّسع " انتهى.
وقال مجاهد : شجّعْتُه.
وقال قتادة : زيَّنْتُ له نفسه، والتَّضْعيف فيه للتَّعْدِية ؛ لأنَّ الأصل : طَاعَ له قَتْلُ أخيه، أي : انْقَادَ من الطَّواعِية، فعُدّي بالتَّضعيف، فصار الفاعلُ مَفْعُولاً كحاله مع الهَمْزَة.
٢٩٠