شكَّ أنهم يَدْفَعُونه دفعاً لا يُمْكِن تَحْصِيل مَقْصُوده، فكذلِكَ إذا عَلِموا منه أنَّه يقصد قَتْلَ إنْسَان واحد [مُعيَّن يجب أن] يَجِدُّوا في دَفْعِه، ويَجْتَهِدوا كاجْتِهَادهم في الصُّورة الأولى.
وثالثها : أنه لمَّا أقدم على القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان فقد رجَّح داعِية الشَّهْوة والغضب على دَاعِيَة الطَّاعة، ومتى كان الأمر [كَذَلِكَ] كانَ التَّرْجِيح حَاصِلاً بالنِّسبة إلى كلِّ واحد، فكان في قلبه أنَّ كلَّ أحد نازعه في شيءٍ من مَطَالبه ؛ فإنَّه لو قدر عليه لقتَلَهُ، ونيَّة المؤمن في الخَيْرَات خَيْر من عَمَلِهِ، فكذلك [نِيَّة المؤمن في الشُّرور شرٌّ من عمله، فيصير المَعْنَى : من يَقْتُل إنساناً قَتْلاً عمداً عُدْوَاناً فكأنَّمَا قَتَل جَمِيع النَّاس].
ورابعها : قال ابْنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عِكْرِمة " مَنْ قتل نَبيّاً أو إمامَ عَدْلٍ، فكأنَّما قتل النَّاسَ جَمِيعاً ومن أحْيَاها : من سَلِمَ من قتلها، فكان كمن سَلِمَ من قَتْلِ النَّاس جَمِيعاً ".
وخامسها : قال مُجَاهِد : من قتل نَفْساً محرَّمة يَصْلَى النَّار بقتلها، كما يصلاها لو قتل النَّاس جميعاً، ومَنْ أحْيَاها : من سلم من قتلها، فكان كمن سلم من قتْلِ النَّاس جَمِيعاً.
وسادسها : قال قتادة : أعْظَم اللَّه أجرَهَا وعظَّم وزرَها، معناه : من استَحَلَّ قتل مُسْلِم بغير حَقِّه، فكأنَّما قتل النَّاس جميعاً في الإثْم لا يَسْلَمُون منه، ومن أحْيَاها وتورَّع عن قَتْلِها، فكأنَّما أحْيَا النَّاس جَمِيعاً في الثَّواب لسلامتِهم منه.
وسابعها : قال الحسن : فكأنَّما قتل النَّاس جَمِيعاً، يعني : أنَّه يَجِبُ عليه من القِصَاص بِقَتْلِها، مثل الذي يجب عليه لو قتل النَّاسَ جَمِيعاً، ومن أحْيَاها، أي : عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ عليه القِصَاص له، فَلَمْ يَقْتُلْه فكأنَّما أحيا النَّاس جَمِيعاً، قال سُليمان بن عَلِي : قلت للحَسَن : يا أبَا سَعِيد : أهِيَ لَنَا كما كانت لِبَني إسْرائيل ؟ قال : والذي لا إله غيره ما كان دَمُ بَنِي إسرائيل أكرم على الله من دَمائِنا.
٣٠٢
وإحْيَاء النَّفْس : هو تَخْلِيصُها من المُهْلِكَات كالحَرق، والغَرَقِ، والجُوعِ المُفْرط، والبرد والحرِّ المُفْرطيْن.
ثم قال :﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ﴾، أي : بعد مَجِيء الرُّسل وبعدما كَتَبْنَا عليهم تَحْريم القَتْل، " لمُسْرِفُون " الذي هو خَبَر " إن " ولا تَمْنَعُ من ذلك لام الابتداء فاصِلَة بين العامل ومعمُوله المتقدِّم عليه ؛ لأنَّ دخولها على الخَبَر على خِلاف الأصْل ؛ إذ الأصْل دُخولُها على المُبْتَدأ، [وإنَّما منع منه دخول " إنَّ " و " ذلِكَ " إشارة إلى مجيء الرُّسُل بالبيِّنات].
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٩٨
لما ذكر تَغْلِيظ الإثْم في قَتْل النَّفس بغير حقٍّ ولا فساد في الأرض أتبعه بِبَيَان الفَسَاد في الأرْض.
وقوله تعالى :﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ﴾ : مُبْتَدأ وخبره " أنْ يُقَتَّلُوا " وما عطف عليه، أي : إنَّما جَزاؤُهُمُ التَّقْتِيلُ، أو التَّصلِيب، أو النَّفْي.
وقوله :" يُحارِبُون اللَّه "، أي : يُحَارِبون أولِيَاءه كذا قدَّرَه الجُمْهُور.
وقال الزَّمَخْشَريُّ :" يُحَارِبُون رسُول الله، ومحاربة المُسْلِمِين في حكم مُحَارَبَتِه ".
يعني : أنَّ المقصود أنَّهم يُحَارِبون رَسُول اللَّه ﷺ، وإنما ذكر اسْم الله - تبارك وتعالى - تَعْظِيماً وتَفْخِيماً لمن يُحَارَبُ، كقوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح : ١٠]، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك عند قوله تعالى :﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة : ٩].
فإن قيل : المُحَارَبة مع اللَّه - عزَّ وجل - غيْر مُمْكنة، فيجب حَمْلُه على المحاربة مع أولياء اللَّه، والمحاربةُ مع رسُولِ الله ﷺ ممكِنَةٌ فلفظ ﴿يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يَلْزَم أن يكون مَحْمُولاً على المجاز والحقيقة معاً فلفظ المحاربة بما نُسِبَت إلى الرَّسُول فلفظ المحاربة إذا نُسِبَت إلى اللَّه تعالى كان مَجَازاً، لأن المُراد منه مُحَاربة أوْلِيَاء اللَّه، وإذا نُسِبَتْ إلى الرَّسُول كانت حَقِيقَة، وذلك مُمْتَنِعٌ.
فالجواب : إنَّما تحمل المُحاربة على مُخالفةِ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ.
والتقدير : إنَّما جزاء الذين يُخالِفُون أحْكامَ اللَّه تعالى وأحكام رسُولِه، ويَسْعَوْن في
٣٠٣


الصفحة التالية
Icon