وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : أيْدِيَهُمَا : يَدَيْهُمَا، ونحوُهُ :﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم : ٤] اكْتَفَى بتثنيةِ المضافِ إليه عَنْ تَثنيةِ المضافِ، وأُريد باليدين اليُمْنَيَان بدليلِ قراءةِ عبد الله :" والسَّارِقُونَ والسَّارِقَاتُ فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمْ " وردَّ عليه أبو حيَّان بأنهما لَيْسا بِشَيْئَيْنِ، فإن النوعَ الأوَّلَ مُطّرد فيه وضْعُ الجمعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، بخلافِ الثاني فإنه لا يَنْقَاسُ، لأن المتبادر إلى الذِّهْنِ من قولك :" قَطَعْتُ آذانَ الزَّيْدَيْن " :" أربعة الآذان " وهذا الردّ ليس بشيء ؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على أنَّ المرادَ اليمنيان.
فصل من أول من قطع في حد السرقة ؟ قال القُرْطُبي : أولُ مَنْ حُكم بقطع [اليد] في الجاهليةِ ابنُ المُغِيرةِ، فأمر الله بقطعِهِ في الإسلام، فكان أول سارقٍ قطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الإسلامِ، مِنَ الرِّجَالِ الخِيَارَ بْنش عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ومن النساء مُرَّة بنت سُفْيَانَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وقطع أبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدَ الْفَتَى الذي سَرَقَ العِقْد، وقطع عُمَرُ - رضي الله عنه - يدَ ابن سَمُرَة أخِي عَبْد الرَّحْمن بن سَمُرَة.
فصل لماذا بدأ الله بالسارق في الآية ؟ قال القرطبيّ : بَدَأ الله بالسارقِ في هذه الآيةِ قَبْلَ السَّارقةِ، وفي الزِّنَا بدأ بالزانيةِ، والحكمةُ في ذلك أنْ يُقالَ : لما كان حُبُّ المالِ على الرجالِ أغلبُ، وشهوةُ الاستمتاعِ على النساءِ أغْلَبُ بدأ بهما في الموضعين.
قوله تعالى :" جَزَاءً " فيه أرْبعةُ أوجُهٍ : أحدُها : أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مُقدَّرٍ، أيْ : جازُوهما جزاء.
الثاني : أنَّهُ مصدرٌ [أيضاً] لكنه منصوبٌ على معنى نوعِ المصدرِ ؛ لأنَّ قوله :" فاقْطَعُوا " في قُوَّةِ : جَازُوهما بقطع الأيْدِي جَزَاءً.
٣٢٤
الثالث : أنَّه منصوبٌ على الحالِ، وهذه الحال يحتملُ أن تكونَ من الفاعل، أي : مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما، وأنْ تكون من المضافِ إليه في " أيْدِيَهُمَا "، أي : في حال كونهما مُجَازَيْن، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه، لأنَّ المضاف جُزْؤهُ، كقوله :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ [الحجر : ٤٧].
الرابع : أنَّهُ [مفعولٌ] مِنْ أجْلِهِ، أيْ : لأجْلِ الجزاءِ، وشروطُ النصب موجودة.
و " نَكَالاً " منصوبٌ كما نُصِب " جَزَاءً " ولم يذكر الزمخْشريُّ فيهما غيرَ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ.
قال أبُو حيان :" تبع في ذلك الزَّجَّاج "، ثم قال :" وليس بجيِّدٍ إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ، فيكون ذلك على طريقِ البدلِ، وأمّا إذا كانا مُتَبَاينين، فلا يجوزُ ذلك إلا بوَسَاطَةِ حَرْفِ العطفِ ".
قال شهابُ الدِّين : النَّّكالُ : نَوْعٌ من الجزاء فهو بدلٌ منه، على أنّ الذي يَنْبغي أن يُقَال هنا إنَّ " جَزَاءٌ " مفعول من أجله، العامل فيه " فاقْطَعُوا "، فالجزاءُ عِلةٌ للأمر بالقطع، و " نَكَالاً " مفعولٌ مِن أجْله أيضاً العامل فيه " جَزَاءً "، والنَّكَالُ عِلّةٌ للجزاءِ، فتكون العلةُ مُعَلَّلةً بِشَيْءٍ آخرٍ، فتكون كالحال المتداخِلَةِ، كما تقول :" ضربتُه تَأدِيباً له إحْسَاناً إلَيْه "، فالتأدِيبُ علَّة للضرب، والإحسانُ علة للتأديب، وكلامُ الزمخشريِّ والزَّجاج لا يُنَافِي ما ذكرنا فإنَّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما :" جزاءً " مفعولٌ مِنْ أجلْه، وكذلك " نَكَالاً " فتأمّله، فإنه وجه حسنٌ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزَّجَّاج، والتفصيلُ المذكورُ في قوله :" إلا إذا كان الجزاءُ هو النَّكَالَ "، ثم ظفرتُ بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له ﴿أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً﴾ [البقرة : ٩٠] أن يكون " بَغْياً " مفعولاً له، ثم ذكروا في قوله :﴿أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ﴾ [البقرة : ٩٠] أنه مفعولٌ له ناصبُه " بَغْياً "، فهو علةٌ له، صَرَّحُوا بذلك فَظَهَرَ ما قلت ولله الحمد.
و " بما " متعلق بـ " جَزَاءً "، و " ما " يجوزُ أنْ تكونَ مصدرية، أي : بكسبهما، وأنْ تكونَ بمعنى " الذي "، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي : بالذي كسباه، والباءُ سَبَبِيَّةٌ.
فصل قال بعضُ الأصُوليِّين : هذه الآيةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ : أحدها : أنَّ الحكمَ مُعلّق على السرقةِ، ومطلقُ السرقَةِ غيرُ مُوجِب القطع، بَلْ لا بد
٣٢٥


الصفحة التالية
Icon