مَخْصُوصَةً بدلائِلَ مُنْفَصِلَة في بعضِ الصُّوَرِ، فيبقى حُجَّة فيما عداهَا، وهذا القولُ أوْلَى من القول بأنها مُجْملة لا تُفِيدُ فائدَةً أصْلاً.
فصل لماذا لم يحد الزاني بقطع ذكره ؟ قال القُرطبي : جعل الله حدَّ السرقة قطعَ اليدِ لتناوُلها المالَ، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنَا قطعَ الذَّكرِ مع مُوافقَةِ الفاحشة به لأمورٍ : أحدها : أن للسارقِ مثلَ يدِهِ التي قُطِعت، فإن انْزَجَرَ بِها اعتاضَ بالباقية، وليس للزَّانِي مثلُ ذكره، إذا قُطِعَ ولم يعتض بغيره لو انْزَجَرَ بقطعِهِ.
الثاني : أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيره، وقطعُ يدِ السَّارقِ ظاهرٌ، وقطعُ الذكرِ في الزنا باطنٌ.
الثالث : أنَّ قطع الذكرِ إبطال للنَّسْلِ وليس في قطع اليد إبطالٌ للنسلِ.
فصل قال جمهورُ الفقهاءِ : لا يجبُ القطعُ إلا بشرطيْن : قدرُ النصابِ، وأنْ تكونَ السرقةُ من حِرْزٍ.
قال ابن عباسٍ وابنُ الزُّبيْرِ والحسنُ البصريُّ - رضي الله عنهم - القدرُ غيرُ مُعْتبرٍ، والقطعُ واجبٌ في القليلِ والكثيرِ، والحرزُ أيضاً غَيْرُ مُعْتبرٍ، وهذا قولُ داود الأصْفهاني وقولُ الخوارجِ، وتمسكوا بعمومِ الآيةِ، فإنَّه لم يُذْكَرْ فيها النصابُ ولا الحرزُ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ، وبالقياسِ غيرُ جائزٍ، واحتج الجمهورُ بأنه لا حاجة إلى القول بالتخصيصِ، بل نقولُ إنَّ لفظ السرقةِ لفظٌ عربيٌّ، ونحنُ بالضرورة، نعلمُ أنَّ أهْلَ اللغَةِ لا يقُولُونَ لِمَنْ أخذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَة الغَيْرِ أو تبنةً واحدةً أو كِسْرةً صغيرةً أنَّهُ سرق مالهُ، علمنا أنَّ أخذ مالِ الغيْرِ كيفما كان لا يُسَمَّى سرقَةً، وأيْضاً فالسرقةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسارقَةِ عيْنِ المالِكِ [وإنَّما يُحْتَاجُ إلى مُسارقةِ عيْنِ المالِكِ] لَوْ كان المسروقُ أمْراً يتعلقُ به الرغبةُ في مَحَلّ الشُّحِّ والضِّنَّةِ حتَّى يَرْغَب السارقُ في أخذِهِ ويتضَايَقُ المسروقُ مِنْه فِي دَفْعِهِ إلى الغَيْرِ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وُجوبِ القطعِ أخْذ المالِ مِنْ حِرْزِ المثل، لأنَّ مَا لا يكُونُ موضُوعاً في الْحِرْزِ لا يُحْتَاجُ في أخْذِه إلى مُسَارقَة الأعْيُنِ، فلا يُسَمَّى أخْذُه سَرِقَةً.
قال داودُ : نحن لا نُوجِبُ القطعَ في سرقة الجبَّةِ الواحدةِ، بل في أقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مالاً، وفي أقَلِّ شَيْءٍ يجري فيه الشُّحُّ والضِّنَّةُ، وذلك لأن مقاديرَ القِلَّةِ والكثْرة غيرُ
٣٢٧
مَضْبُوطَةٍ، فربَّما اسْتَحْقَر الملكُ الكبيرُ آلافاً مُؤلَّفَةً، وربما اسْتَعْظَمَ الفقيرُ طسُّوجاً، ولهذا قال الشافِعِيُّ - رضي الله عنه - : لو قال : لِفُلانٍ عليَّ مالٌ عَظِيمٌ، ثم فسره بالحبةِ، يقبل قوله فيه لاحتمالِ أنَّه كان عظيماً في نظره، أو كان عظيماً عنده لغاية فَقرِهِ وشدةِ احتياجِهِ إليه، ولما كانت مقاديرُ القِلَّةِ والكَثْرةِ غيْرَ مَضْبُوطةٍ، وَجَبَ بِنَاءُ الحكمِ على أقل ما يُسَمَّى مالاً.
وليس لقائلٍ أنْ يَسْتَبْعِدَ ويقُولَ : كيف يجوزُ [القطعُ في سرقةِ] الطسوجة الواحدةِ، فإنَّ الملحد قد جعلَ هذا طَعْناً في الشريعةِ فقال : اليدُ لما كانت قيمَتُها خَمسمائَةِ دينارٍ من الذَّهَبِ، فكيف تُقْطَعُ لأجل القليلِ من المالِ ؟ ثُم إنْ أجَبْنَا عن هذا الطعنِ، بأنَّ الشرعَ إنما قطعَ يدهُ بسبب أنه تَحمَّل الدناءَةَ والخساسَةَ في سرقَةِ ذلك القدرِ القليلِ، فلا يَبْعُدُ أنْ يعاقبه الشرعُ بسبب تلك الدناءَةِ بهذه العُقُوبةِ العظيمةِ، وإذاً كَانَ هذا الجوابُ مَقْبُولاً مِنَّا في إيجابِ القطْعِ في القليلِ والكثيرِ، قال : ومِمَّا يدلُ على أنَّهُ لا يجوزُ تخصيصُ عمومِ القرآنِ هَاهُنَا بخبرِ الواحدِ، وذلك لأن القائلينَ بتخصيصِ هذا العمومِ اختلفُوا على وجوهٍ : قال الشافعيُّ : يجبُ القطعُ في رُبْعِ دينارٍ، وروى فيه قوله عليه الصلاة والسلام " لا قَطْعَ إلاَّ في رُبْعِ دينارٍ " وقال أبُو حنيفَةَ : لا يجبُ إلاَّ في عشرةِ دراهم مضرُوبة، وروى قوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع إلا في ثَمنِ المجَنِّ " قال : والظاهر أنَّ ثمن المجَنّ لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم.
وقال مالكٌ وأحْمدُ وإسحاقُ : يُقدر بثلاثةِ دراهم أو رُبْعِ دينار وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : مُقَدَّرٌ بخمسةِ دراهمَ، وكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتهدين يطعنُ في الخبرِ الذي يرويه الآخرُ، فعلى هذا التقدير : فهذهِ المُخَصصَاتُ صارتْ متعارِضةً، فوجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ مِنْها : ويُرْجع في معرفةِ حُكْمِ الله تعالى إلى ظاهرِ القرآنِ.
قال : وليس لأحدٍ أنْ يقول : إن الصحابة أجْمَعُوا على أنَّه لا يجبُ القطعُ إلاّ في مقدار مُعَيَّنٍ، قال : لأنَّ الحسنَ البصريَّ كان يُوجِبُ القطعَ بمجردِ السَّرِقَةِ، وكان يقولُ :
٣٢٨