وقوله تعالى :﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ [التوبة : ٣] الآية ؛ لأن " الأذان " بمعنى الإعلام.
الوجه الثالث : أن " العين " عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبراً ؛ إذ التقدير أنَّ النفس بالنفس هي والعينُ، وكذا ما بعدها، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبنيةً للمعنى ؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر وضَعِّفَ هذا بأن هذه أحوال لازمة، والأصل أن تكون منتقلةً، وبأنه يلزم العَطْفُ على الضمير المرفوع المُتصل من غير فَصْلٍ بين المتعاطفين، ولا تأكيدٍ ولا فَصْلٍ بـ " لا " بعد حرف العطف كقوله :﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام : ١٤٨] وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً.
قال أبو البقاء : وجاز العطفُ من غير توكيد كقوله :﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام : ١٤٨] قال شهاب الدين : قام الفصْل بـ " لا " بين حرف العطف، والمعطوف مقام التوكيد، فليس نظيره.
وللفارسي بحث في قوله :﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام : ١٤٨] مع سيبويه، فإن سيبويه يجعل طول الكلام بـ " لا " عوضاً عن التوكيد بالمنفصل، كما طال الكلام في قولهم :" حضر القاضِيَ اليومَ امرأةٌ ".
قال الفارسي :" هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطفِ، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير، ألا ترى أنك لو قلت :" حضر امرأة القاضي اليوم " لم يُغْنِ طُولُ الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه ".
قال ابن عطية :" وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتَمَّ، فإنه بعد حرف العطف مؤثر، لا سيما في هذه الآية، لأن " لا " ربطت المعنى ؛ إذ قد تقدمها نفي، ونفت هي أيضاً عن " الآباء " فيمكن العطف.
واختار أبو عبيد قراءة رفع الجميع، وهي رواية الكسائي ؛ لأن أنَساً - رضي الله عنه - رواها قراءة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أنس عنه - عليه الصلاة والسلام - أيضاً " أن النَّفسُ بالنَّفسِ " بتخفيف " أنْ " ورفع " النفس "، وفيها تأويلان : أحدهما : أن تكون " أنْ " مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف، و " النفس بالنفس " مبتدأ وخبر، في محل رفع خبراً لـ " أن " المخففة، كقوله :﴿أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس : ١٠] فيكون المعنى كمعنى المشدّدة.
٣٥٤
والثاني : أنها " أنْ " المفسرة ؛ لأنها بعد مَا هو بمعنى القول لا حروفه وهو " كتبنا "، والتقدير : أي النفسُ بالنفس، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم، وهو قليل أو ممنوع، وقد يقال : إن " كتبنا " لمّا كان بمعنى " قضينا " قَرُبَ من أفعال اليَقينِ.
وأما قراءة نافع ومن معه فالنَّصْبُ على اسم " أنَّ " لفظاً، وهي النفس، والجار بعده خبرُه.
و " قصاصٌ " خبر " الجروح "، أي : وأن الجروح قصاص، وهذا من عطف الجُمَلِ، عطفت الاسم على الاسم، والخبر على الخبر، كقولك " إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً منطلق " عطفت " عمراً " على " زيداً "، و " منطلق " على " قائم "، ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكون " قصاص " خبراً على المنصوبات أجمع، فإنه قال : وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كلِّه، و " قصاص " خبرُ " أنَّ "، وهذا وإن كان يصدقُ أن أخْذَ النفس بالنفسِ والعين بالعينِ قصاص، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح، وهو محل نظر.
وأما قراءة أبي عمرو ومن معه، فالمنصوب كما تقدم في قراءة نافع، لكنهم لم ينصبوا " الجروح " قطعاً له عما قبله، وفيه أربعة أوجه : الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة الكسائي، وقد تقدم إيضاحه.
والرابع : أنه مبتدأ وخبره " قصاص "، يعني : أنه ابتداء تشريعٍ، وتعريف حكم جديد.
قال أبو علي :" فأمّا " والجروح قصاص " [فمن رفعه يقْطَعُهُ عما قبله، فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع " والعين بالعين "، ويجوز أن يستأنف " والجروح قصاص " ] ليس على أنه مما كُتب عليهم في التوراة، ولكنه على الاستئناف، وابتداء تشريع " انتهى.
إلا أن أبا شامة قال - قبل أن يحكي عن الفارسي هذا الكلام - :" ولا يستقيم في رفع الجروح الوجه الثالث، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر " النفس " وإن جاز فيما قبلها، وسَبَبُهُ استقامة المعنى في قولك : مأخوذة هي بالنفس، والعين هي مأخوذة بالعين، ولا يستقيم، والجروحُ مأخوذة قصاص، وهذا معنى قولي : لما خلا قوله :" الجروح قصاص " عن " الباء " في الخبر خالفَ الأسماءَ التي قبلها، فخولف بينهما في الإعراب ".
قال شهاب الدين : وهذا الذي قاله واضح، ولم يتنبه له كثير من المُعرِبين.
٣٥٥