كونه متصدقاً، أنه إذا جنى جناية، ولم يعرف به أحد، فعرف هو بنفسه، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قال مجاهد.
وَيُحْكَى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه، فلم يعرف الرجل من أصابه، فقال له عروة :" أنا أصبتك، وأنا عروة بن الزُّبَيْرِ، فإن كان يعنيك شيء فَهَا أنَا ذَا " وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون " تصدَّق " من الصدقة، وأن يكون من الصِّدْق.
قال شهاب الدين : فالأول واضح، والثاني معناه أن يتكلف الصدق ؛ لأن ذلك مما يشق.
وقوله تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم﴾ يجوز في " مَنْ " أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط.
و " هم " في قوله :" هم الكافرون " ونظائره فصل أو مبتدأ، وكله ظاهر مما تقدَّم في نظائره.
فإن قيل : إنه ذكر أولاً قوله تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة : ٤٤] وثانياً :" هم الظالمون " والكفر أعظم من الظلم.
فلماذا ذكر أعظم التهديدات، ثم ذكر بعده الأخف فأيُّ فائدة في ذلك ؟ فالجواب : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها، فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس في الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٥١
قوله تعالى :﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم﴾ الآية، قد تقدم معنى " قفينا " وأنه من قَفَا يَقْفُو أي : تبع قفاه في البقرة [الآية ٨٧] وقوله تعالى :﴿عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى﴾ كِلاَ الجارَّيْنِ متعلق به على تضمينه معنى " جئنا به على آثارهم قافياً لهم ".
وقد تقدم أيضاً أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذُكِرَتْ هناك، وإيضاحها أنَّ " قَفَا " متعدٍّ لواحد قبل التضعيف، قال تعالى :﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء : ٣٦] فـ " ما " موصولة بمعنى " الذي " هي مفعول، وتقول العرب :" قفا فلان أثر فلان " أي : تبعه، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين، فكان التركيب يكون :" ثم قفيناهم عيسى ابن مريم " فـ " هم " مفعول ثانٍ، و " عيسى " أول، ولكنه ضُمِّن كما تقدم، فلذلك تعدى
٣٥٨
بالباء، و " على " قال الزمخشري " " قَفَّيْتُهُ " مثل : عَقَّبْتُهُ إذا أتبعته، ثم يقال :" قَفَّيتُهُ بفلان " مثل : عَقَّبْتُه به : فتعديه إلى الثاني بزيادة " الباء ".
فإن قلت : فأين المفعول الأول ؟ قلت : هو محذوف، والظرف الذي هو " على آثارهم " كالسَّادِّ مسدَّه ؛ لأنه إذا قَفَّى به على أثره، فقد قَفَّى به إياه، فكلامه هنا ينحو إلى أنَّ " قفَّيته " مضعفاً كـ " قفوته " ثلاثياً ثم عدَّاهُ بالباء، وهذا وإن كان صحيحاً من حيث إنَّ " فعَّل " قد جاء بمعنى " فعل " المجرد كـ " قدَّرَ وقَدَرَ "، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلى ثانٍ بالباء، لا تقول في " طعم زيد اللحم " :" أطعمت زيداً باللحم " ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع، جاءت منه ألفاظ قالوا :" صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ " ثم يقولون : صككت الحَجَر بالحجر، و " دَفَعَ زيدٌ عَمْراً " ثم : دَفَعْتُ زيداً بعمرو : أي : جعلته دافعاً له، فكلامه إما ممتنع، أو محمول على القليل، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادِّعاء حذف المفعول من نحو " قَفَّيْنَا " في البقرة [الآية ٨٧].
وناقشه أبو حيان في قوله :" فقد قَفَّى به إياه " من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول :" قفيته به ".
قال :" ولو قلت :" زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه " لم يَجُزْ إلا في ضرورة شعر، بل ضربته بسوط "، وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله :﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الممحنة : ١] ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [النساء : ١٣١] وقد تقدَّم تحقيقه.
والضمير في " آثارهم " : إمَّا للنبيين ؛ لقوله :﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ [المائدة : ٤٤] وإمَّا لِمَنْ كُتِبَتْ عليهم تلك الأحْكَامُ، والأول أظهر ؛ لقوله في موضع آخر :﴿برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم﴾.
و " مصدقاً " حال من " عيسى ".
قال ابن عطية : وهي حال مؤكّدة، وكذلك قال في " مصدقاً " الثانية، وهو ظاهرٌ فإن مَنْ لازم الرَّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن.
و " لما " متعلّق به.
وقوله :" من التوراة " حال : إما من الموصول، وهو " ما " المجرورة باللام، وإما من الضمير المستكنّ في الظرف لوقوعه صِلَةً، ويجوز أن تكُون لبيان جِنْسِ الموصول.
قوله تعالى :﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ﴾ يجوز فيها وجهان :
٣٥٩


الصفحة التالية
Icon