بالباء، و " على " قال الزمخشري " " قَفَّيْتُهُ " مثل : عَقَّبْتُهُ إذا أتبعته، ثم يقال :" قَفَّيتُهُ بفلان " مثل : عَقَّبْتُه به : فتعديه إلى الثاني بزيادة " الباء ".
فإن قلت : فأين المفعول الأول ؟ قلت : هو محذوف، والظرف الذي هو " على آثارهم " كالسَّادِّ مسدَّه ؛ لأنه إذا قَفَّى به على أثره، فقد قَفَّى به إياه، فكلامه هنا ينحو إلى أنَّ " قفَّيته " مضعفاً كـ " قفوته " ثلاثياً ثم عدَّاهُ بالباء، وهذا وإن كان صحيحاً من حيث إنَّ " فعَّل " قد جاء بمعنى " فعل " المجرد كـ " قدَّرَ وقَدَرَ "، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلى ثانٍ بالباء، لا تقول في " طعم زيد اللحم " :" أطعمت زيداً باللحم " ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع، جاءت منه ألفاظ قالوا :" صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ " ثم يقولون : صككت الحَجَر بالحجر، و " دَفَعَ زيدٌ عَمْراً " ثم : دَفَعْتُ زيداً بعمرو : أي : جعلته دافعاً له، فكلامه إما ممتنع، أو محمول على القليل، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادِّعاء حذف المفعول من نحو " قَفَّيْنَا " في البقرة [الآية ٨٧].
وناقشه أبو حيان في قوله :" فقد قَفَّى به إياه " من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول :" قفيته به ".
قال :" ولو قلت :" زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه " لم يَجُزْ إلا في ضرورة شعر، بل ضربته بسوط "، وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله :﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الممحنة : ١] ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [النساء : ١٣١] وقد تقدَّم تحقيقه.
والضمير في " آثارهم " : إمَّا للنبيين ؛ لقوله :﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ [المائدة : ٤٤] وإمَّا لِمَنْ كُتِبَتْ عليهم تلك الأحْكَامُ، والأول أظهر ؛ لقوله في موضع آخر :﴿برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم﴾.
و " مصدقاً " حال من " عيسى ".
قال ابن عطية : وهي حال مؤكّدة، وكذلك قال في " مصدقاً " الثانية، وهو ظاهرٌ فإن مَنْ لازم الرَّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن.
و " لما " متعلّق به.
وقوله :" من التوراة " حال : إما من الموصول، وهو " ما " المجرورة باللام، وإما من الضمير المستكنّ في الظرف لوقوعه صِلَةً، ويجوز أن تكُون لبيان جِنْسِ الموصول.
قوله تعالى :﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ﴾ يجوز فيها وجهان :
٣٥٩
أحدهما : أن تكون عطفاً على قوله :" وَقَفَّيْنَا " فلا يكون لها مَحَلٌّ، كما أن المعطوف عليه لا مَحَلَّ له، ويجوز أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال عَطْفاً على " مصدقاً " الأوَّل إذا جعل " مصدقاً " الثاني حالاً من " عيسى " أيضاً كما سيأتي، [ويجوز أن تكون الجملة حالاً] وإن لم يكن " مصدقاً " الثاني حالاً من " عيسى ".
قوله تعالى :" فيه هدى " يجوز أن يكون " فيه " وحده حالاً من الإنجيل، و " هدى " فاعل به ؛ لأنه لما اعتمد على ذِي الحَالِ رفع الفاعل ويجوز أن يكون " فيه " خبراً مقدّماً، " وهدى " مبتدأ مؤخر، والجملة حال، و " مصدقاً " حال عَطْفاً على محل " فيه هدى " بالاعتبارين أعني اعتبار أن يكون " فيه " وَحْدَهُ هو الحال، فعطفت هذه الحال عليه، وأن يكون " فيه هدى " جملة اسمية محلُّها النصب، و " مصدقاً " عطف على محلِّهَا، وإلى هذا ذَهَبَ ابن عطية، إلاّ أن هذا مرجوحٌ من وجهين : أحدهما : أن أصل الحال أن تكون مفردة، والجار أقرب إلى المفرد من الجمل.
الثاني : أن الجملة الاسمية الواقعة حالاً، الأكثر أن تأتي فيها بالواو، وإن كان فيها ضميرٌ - حتى زعم الفراء - وتبعه الزمخشري أن ذلك لا يجوز إلا شاذّاً، وكونُ " مصدقاً " حالاً من " الإنجيل " هو الظاهر.
وأجاز مكي بن أبي طالب - وتبعه أبو البقاء - أن يكون " مصدقاً "، الثاني حالاً أيضاً من عيسى " كُرِّرَ توكيداً.
قال ابن عطية :" وهذا فيه قَلَقٌ من جهة اتساق المعاني ".
قال شهاب الدين : إذا جعلنا " وآتيناه " حالاً منه، وعطفنا عليها هذه الحال الأخرى، فلا أدْرِي وجْه القلقِ من الحيثية المذكورة ؟ وقوله :" وهدى " الجمهور على النَّصْبِ، وهو على الحال : إمَّا من " الإنجيل "، عطفت هذه الحال على ما قبلها، وإمَّا من " عيسى " أي : ذا هُدًى وموعظة، أو هادياً، أو جعل نفس الهدى مبالغة.
وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعُولِ من أجْلِهِ، وجعل العامل فيه قوله تعالى :" آتيناه "، قال : وأنْ ينتصبا مفعولاً لهما لقوله :" وليحكم " كأنه قيل وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم.
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون العامل فيه " قَفَّيْنَا " أي : قفينا للهدى والموعظة،
٣٦٠