وجوَّز أبُو حيان : أنْ تكُون لِلْعَهد ؛ إذ المرادُ نوعٌ معلُومٌ من الكتابِ، لا كُل ما يقعُ عليه هذا الاسمُ، والفرقُ بَيْنَ الوجهيْنِ أنَّ الأولَ يحتاجُ إلى حَذْفِ [صفة] أيْ : مِنَ الكتابِ الإلهِي، وفي الثاني لا يحتاجُ إلى ذلِكَ ؛ لأن العَهْدَ فِي الاسْمِ يتضمنُه بجميعِ صِفَاتِهِ.
قوله تعالى :" وَمُهَيْمِناً " الجمهورُ على كَسْرِ الميمِ الثانيةِ، اسمُ فاعلٍ، وهو حالٌ من " الكتاب " الأول لعطفِهِ على الحالِ منه وهو " مُصدِّقاً "، ويجوزُ في " مُصَدِّقاً " و " مُهَيْمِناً " أنْ يَكُونَا حاليْنِ مِنْ كافِ " إلَيْكَ "، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قراءةِ مجاهد رحمه الله.
" وعليْهِ " متعلقٌ بـ " مُهَيْمِن ".
و " المهيمنُ " : الرَّقيبُ قال حسَّان :[الكامل] ١٩٧١ - إنَّ الكتابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا
والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الألْبَابِ
والحافِظُ أيْضاً قال :[الطويل] ١٩٧٢ - مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمنٌ
لِعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - " شاهِداً " وهو قولُ مُجاهدٍ وقتادَةَ والسديِّ والكِسَائِي، وقال عِكْرِمَةُ : دالاً، وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبُو عُبيدَةَ : مُؤتَمناً عليه.
وقاله الكسائيُّ والحسنُ.
واختلفوا : هل هو أصل بِنَفْسِهِ، أيْ : أنه ليس مُبْدَلاً مِنْ شيءٍ، يقالُ :" هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُو مُهَيْمِن " كـ " بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ فهو مُبَيْطر ".
وقال أبُو عُبَيْدة : لم تَجِئْ في كلامِ العرب على هذا البِنَاءِ إلا أربعةُ ألفاظٍ :" مُبَيْطِر، ومُسَيْطِر، ومُهَيْمن، ومُحَيْمِر ".
٣٦٥
وزاد أبُو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في شرحه لخُطْبَةِ " أدَبِ الكاتبِ " لفظاً خامساً، وهو مُبَيْقِر، اسم فاعل من : بيقَر يُبَيْقِر أيْ : خرج من أفُقٍ إلى أفُقٍ، أو لعب البُقَّيْرى وهي لعبةٌ مَعْرُوفةٌ للصِّبْيَان.
وقيل : إنَّ هاءَهُ مُبْدلةٌ من همزة، وأنه اسمُ فاعلٍ من آمن غيرهُ مِنَ الخوفِ، والأصْلُ " مُأَأْمِن " بهمَزْتَيْنِ أبدلَتِ الثانيةُ ياءً كراهِيةَ اجتماعِ همزتين، ثُمَّ أبْدِلَتِ الأولَى هاءً كـ " هراق وهراح، وهَبرتُ الثوب " في :" أراق وأراح وأبرتُ الثوبَ " و " أيهاتَ وهَيْهَات " ونحوها، وهذا ضعيفٌ فيه تكلُّفٌ لا حاجة إليه، مع أنَّ له أبْنِيَةً يُمْكِن إلحاقهُ بها كـ " مُبَيْطِر " وإخوانه، وأيضاً فإنَّ هَمْزَةَ " مُأَأْمِن " اسمُ فاعلٍ من " آمَنَ " قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أنها أثبتت، ثم أبدلت هاءً، هذا ما لا نظيرَ له.
وقد سقط ابنُ قَُتَيْبَة سقطةً فاحِشَةً حيث زعم أن " مُهَيْمِناً " مُصَغَّرٌ، وأنَّ أصلهُ " مُؤيْمِنٌ " تصغيرُ " مُؤمِن " اسمُ فاعلٍ، ثُم قُلبتْ همزتهُ هاءً كـ " هَرَاق "، ويُعْزَى ذلك لأبِي العبّاس المُبَرّدِ أيضاً، إلاَّ أنَّ الزَّجَّاج قال :" وهذا حسنٌ على طريق العربية [وهُو مُوافقٌ لِمَا جَاءَ فِي التفسيرِ مِن أنَّ معنى " مُهَيْمِن " : مُؤمِنٌ ".
وهذا الذي قالَهُ الزَّجَّاجُ واسْتَحْسَنَهُ] أنكره الناسُ عليه، وعلى المبرِدِ، وعلى مَنْ تَبِعَهُما.
ولما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَباً هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة، وكتب إليه : أن اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ، لأنَّ أسماءَ الله - تعالى - لا تُصَغَّر، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم شَرْعاً.
وقال ابنُ عطيَّة :" إنَّ النقَّاش حَكَى أنَّ ذلك لمَّا بلغ ثعلباً فقال : إنَّ ما قال ابنُ قُتَيْبَة رَدِيءٌ باطِلٌ، والوُثُوب على القرآنِ شديدٌ، وهو ما سَمِعَ الحديثَ مِنْ قويٍّ ولا ضعيفٍ، وإنَّما جمع الكتُبَ من هَوَسٍ غلبه ".
وقرأ ابنُ مُحيصن ومُجاهد :" وَمُهَيْمَناً " بفتح الميمِ الثانيةِ على أنَّه اسمُ مفعولٍ.
وقال أبُو البقاءِ : وأصلُ " مُهَيْمن " : مُؤيمنٌ ؛ لأنه مُشْتَقٌّ من " الأمانة " ؛ لأنَّ المهيمنَ الشاهدُ، وليس في الكلام " هَيْمَنَ " حتى تكُون " الهاء " أصْلاً، وهذا الذي قالهُ ليس بِشَيءٍ لما تقدَّمَ مِنْ حِكايةِ أهْلِ اللُّغَةِ " هَيْمَنَ "، وغايةُ مَا في البابِ أنهم لم يستعمِلُوه إلاَّ مَزِيداً فيه الياءُ كـ " بَيْطَر " وبابِهِ، بمعنى أنَّه حُوفِظَ عليه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ، والفاعلُ هو الله تعالى :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر : ٩] أو الحافظُ لهُ في كُلِّ
٣٦٦