وهذه الجُملة تحتمل أن تكُون من بَابِ الجملة الفعليَّة أو الجملة الاسميَّة، كما تقدَّم في نظائره.
و " جَمِيعاً " حال من " كُمْ " في " مَرْجِعُكُمْ "، والعامل في هذه الحال، إمَّا المصْدر المضاف إلى " كُمْ "، فإنَّ " كُمْ " يحتمل أن تكون فاعِلاً، والمصدر يَنْحَلُّ لحرف مصدريٍّ، وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل، والأصْلُ :" تُرْجَعُون جَمِيعاً "، ويحتمل أن تكون مفعُولاً لم يُسَمَّ فاعِلُه، على أنَّ المصدر يَنْحَلُّ لفعل مَبْني للمفعول، أي :" يُرْجِعُكُم الله "، وقد صرَّح بالمعْنَييْن في مواضع.
وإما أن يعمل فيها الاسْتِقْرارُ المقدَّر في الجارِّ وهو " إلَيْه " [و " إليه مَرْجِعُكُمْ " يحتمل أن يكون من باب الجُمَل الفعليَّة، أو الجُمل الاسميَّة، وهذا واضح بما تقدَّم في نَظَائِره] و " فَيَنَبِّئُكم " هنا من " نَبَّأ " غير مُتَضَمِّنَة معنى " أعْلَم "، فلذلك تعدَّتْ لواحد بِنَفْسِها، وللآخر بحرف الجرَّ.
والمعنى : فَيُخْبِركم بما لا تَشُكُّونَ معه من الجَزَاءِ الفاصِلِ بين محقكم ومُبْطِلِكُم، والمُراد : أنَّ الأمر سيؤول إلى ما يُزِيل الشُّكُوك.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
قوله تعالى :﴿وَأَنِ احْكُم﴾ : فيه أربعةُ أوجه : أحدها : أنَّ محلَّها النَّصب عَطْفاً على " الكِتَاب "، أي :" وأنزلنا إليكم الحكم ".
والثاني : أنَّها في محلِّ جرٍّ عَطْفاً على " بالحقِّ "، أي :" أنزلناه بالحق وبالحكم " وعلى هذا الوجْهِ فيَجُوزُ في محلِّ " أنْ " النَّصْب والجرّ على الخلافِ المَشْهُور.
والثالث : أنَّها في محلِّ رفع على الابتداء، وفي تقدير خَبَرهِ احتمالان : أحدهما : أن تقدِّره مُتَأخِّراً، أي : حكمك بما أنْزَل اللَّه أمْرُنا أو قولنا.
والآخر : أن تقدِّره متقدِّماً أي : ومِن الواجِبِ أن احكُم أي : حُكْمُك.
والرابع : أنَّهَا تَفْسِيريَّة.
قال أبُو البقاء :" وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ " الواو " تَمْنَع من ذلك، والمعنى يفسد ذلِك ؛ لأنَّ " أن " التَّفْسِيريَّة يَنْبَغِي أن يَسْبِقَها قولٌ يُفسَّر بِهَا "، أما ما ذَكَرَهُ من مَنْع " الواو " أن تكُون " أنْ " تَفسيريَّة فَوَاضِحٌ.
٣٧٢
وأمَّا قوله :" يَسْبِقُها قوْل " إصلاحُهُ أن يقول :" مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه "، ثم قال : ويمكن تَصْحِيحُ هذا القول بأن يكون التَّقدير : وأمَرْنَاك، ثم فسَّر هذا الأمْر بـ " احْكُمْ "، ومنع الشَّيْخ من تصحيح هذا القَوْل بما ذكرهُ أبو البقاء، قال : لأنَّه لم يُحْفَظ من لِسَانهم حذف الجُمْلَة المُفسَّرَة بـ " أن " وما بعدها، وهو كما قال.
وقراءتَا ضمِّ نُونِ " أن " وكَسْرِهَا واضحتَان ممَّا تقدَّم في البَقَرَة : الضمَّة للإتبَاع، والكَسْر على أصْل التِقَاء السَّاكِنَيْن.
والضَّمِير في " بَيْنَهُم " : إمَّا لليهُود خَاصَّة، وإمَّا لِجَمِيع المُتَحَاكِمين.
فإن قيل : قالوا : هذه الآية نَاسِخَةٌ للتَّخْيِير في قوله :﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ﴾ [المائدة : ٤٢]، وأعَادَ ذِكْر الأمْر بالحُكْمِ بعد ذِكْرِه أوَّلاً : إما للتَّأكيد، وإمَّا لأنَّهما حُكْمَان أمَر بهما جَمِيعاً ؛ لأنَّهمُ احْتَكموا إليه في زِنَا المُحْصَن، ثُمَّ احْتَكَمُوا إليه في قتلٍ كائنٍ فيهِم.
قوله تعالى :﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : يردُّوكَ إلى أهْوائِهِم.
وقد ذكرنا أنَّ اليهُود اجْتَمَعُوا وأرادُوا إيقاعَهُ في تَحْرِيفِ دينهِ فعصمَهُ اللَّه عن ذلك، فإن كلَّ من صُرِفَ من الحقِّ إلى الباطِلِ فقد فُتِن، ومنه قولُهُ تعالى :﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء : ٧٣] والفِتْنَةُ هاهنا : المَيْلُ عن الحقِّ والإلْقَاء في الباطِل، وكان - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يقول :" أعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا "، قال : هو أن يَعْدِلَ عن الطَّرِيق.
قال العُلَمَاءُ - رضي الله عنهم - : هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخَطَأ والنِّسْيَان جائِزٌ على الرُّسُل ؛ لأن الله قال :﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، والتَّعَمُّد في مثل هذا غير جائز على الرُّسل فلم يَبْقَ إلا الخَطَأ والنسيان.
قوله تعالى :" أن يفْتِنُوكَ " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مفعول من أجلِهِ، أي : احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك.
والثاني : أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال، كأنَّه [قال] : واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ، كقولك :" أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه ".
وقوله تعالى :" فإن تَوَلَّوْا ".
قال ابنُ عطيَّة : قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر، تقديره :" لا تَتَّبعْ واحْذَر، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ ".
٣٧٣


الصفحة التالية
Icon