وقيل : معناها خَلْقُ السموات والأرض، وقد دجَعَلَ الظلمات والنُّور ؛ لأنه خلقَ الظُّلْمَة والنُّور قبل السموات والأرضِ.
قال قتادة : خلق الله السَّمواتِ قَبْلَ الأرض، وخَلَقَ الظُّلْمَةّ قَبْلَ النُّورِ، والجنَّة قبل النَّار.
وروى عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبيَّ ﷺ قال :" إن الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ عَلَيُهِم مَنْ ذّلِكَ اهْتَدَى، ومَنْ أخْطأهُ ضَلَّ ".
قوله تعالى :﴿ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾.
" ثُمَّ " هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني، وإنِّما هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع ما أوضحَ من الدِّلالاتِ، وهذه عطفٌ : إمَّا على قوله :" الحمدُ لله "، وإمَّا على قوله :" خَلَقَ السَّمواتِ ".
قال الزمخشري :" فإن فما معنى " ثم " ؟ قلت : استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وكذلك " ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ " استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما ثبتَ أنَّهث مُحْييهمْ، ومُميتُهُمْ وباعثهم ".
وقال ابن عطية :" ثُمَّ " دَالَّةٌ على قُبْحِ فَعْلِ الذين كَفَرُوا، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ، وآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وإنُعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره.
قال أبو حيَّان : ما قَالاَهُ من أنَّها للتَّوبيخ والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح ؛ لأنها لم تُوضع لذلك، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من " ثُمَّ "، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل " ثمَّ " هنا للمُهْلَةٍ في الزَّمَانِ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً [على جملةٍ اسميةٍ] يعني على " الحَمْدُ للِّهِ ".
ثُمَّ اعترض على الزمخشري في تَجْوِيزِه أن تكون معطوفةً على " خَلَقَ " [لأنَّ
١٢
" خَلَقَ " ] صِلَةٌ، فالمعطوف عليها يُعطى حكمها، ولكن ليس ثم رابطٌ يعودٌ [منها] على الموصول.
ثُمَّ قال :" إلاَّ أنْ يكون على رَأي من يَرَى الرَّبْطَ بالظَّاهِرِ كقولهم :" أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري " وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللِّهِ ".
قال شهابُ الدين : إنَّ الزمخشري إنَّما يريدٌ العَطْفَ بـ " ثم " لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريدُ التَّرَاخي في الزَّمَانِ كما قد صَرَّحَ به هو، فكيف يلزمه ما ذكر من الخُلُوِّ عن الرابط ؟.
وكيفَ يتخيل كونها لِلمُهْلَة في الزمان كما أبو حيان.
قوله :" بربِّهمْ " يجوز أن يتعلَّق بـ " كَفَرُوا "، فيكون " يَعْدلُون " وقدِّم للفَوَاصِلِ، وفي " الباء " حينئذٍ احتمالان : أحدهما : أن تكون بمعنى " عن " و " يَعْدلون " مِنَ العدول أي : يعدلون عن ربهم إلى غيره.
والثاني : أنها للتعدية ويعدلون من العَدْلِ وهو التسوية بين الشَّيْئَيْنِ، أي : ثُمَّ الذين كفروا يُسَوونَ بربَّهم غَيْرَه من المَخْلُوقِينَ، فيكون المَفْعُولُ محذوفاً.
وقيل معنى الآية كقول الفائل " أنْعَمْتُ عليكم بكذا، وتَفَصَّلْتُ عليكم بكذا، ثُم تكفرون نعمتي ".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤
أعلم أنَّ هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يكون الماد منه ذكرُ الدليل على صحة المعاد وصحة الحَشْرِ.
أمَّا الأول فتقريره : أنَّهُ - تعالى - لمَّا اسْتَدَلَّ بِخَلْقِهِ السَّمواتِ وتَعَاقُبِ الظُّلماتِ والنُّور على وجود الصَّانع الحكيم أتْبَعَهُ الاسْتِدلالِ بخلقه الإنسان على إثبات هذا المَطْلُوب، فقال :" هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ "، والمراد منه خلق آدم [الأن آدَمَ
١٣


الصفحة التالية
Icon