قوله تعالى :﴿َلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ لمَّا منعهم من الإعراض والتَّكْذيب، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد، أتْبَعَهُ بما يجري المَوْعِظةِ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية.
و " كم " يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً، وفي كِلاَ التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى اسْتِفْهاميَّةِ في ذلك، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره، والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ، ويضعف كونها بصرية، وعلى ككلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل ؛ لأنَّ البصرية تجر مجراها، فإن كانت عِلْمِيَّةً فـ " كم " وما في حيَّزها سادَّة مسدَّ مفعولين، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد.
و " كم " يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص، فتكون مفعولاً بها، نَاصِبُهَا " أهْلَكْنا " أي : إهلاكاً، و " من قرنٍ " على هذا صِفَةٌ لمفعول " أهَلكْنَا " أي : أهلكنا قوماً، أو فوجاً من القُرُونِ ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ، و " مِنْ " تبعيضية، والأولى لابتداء الغاية.
وقال الحُوفي :" من " الثانية بَدَلٌ من " مِنْ " الأولى، وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيَّنٌ، ويحوز أن تكون " كم " عبارة عن الزَّمَانِ، فتنتصبُ على الظرف.
قال أبو حيان : تقديره : كم أزمنةٍ أهلكنا فيها.
٢٨
وجعل أبو البقاء على هذا الوجه " مِنْ قَرْن " هو المفعول به، و " منْ " مَزيدَةٌ فيه، وجاز ذلك ؛ لأن الكلام غير موجب، والمجرور نكرة، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت :" كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً " أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً، لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس مَوْضَعَ زيادة " مِنْ " لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام، إلاَّ وهو استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا مُرَاداً به النفي انتهى.
قال شهابُ الدِّين : وجوابه لا يسلم.
و " قَرْن " الجماعة من النَّاسِ وجمعه " قرون ".
وقيل : القَرْنُ مُدَّة من الزمان، يقال : ثمانون سنةً، [ويقال : ستُّون سَنَةً] ويُقال : أربعون سَنَةً، ويقال : ثلاثون سَنَةً، ويقال : مائة سنة ؛ لما روي أنَّه - عليه السلامُ - قال لعبد الله بن بشر المازني :" تَعِيْشُ قَرْناً " فعاش مائة سَنَةٍ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ ؛ لأنَّ القَرْنَ الزمان، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلاَّ على [اعتقاد] أنه حقيقة فيه مَجَازٌ في النَّاسِ، وسيأتي بَقِيَّةُ الكلام عليه في الصَّفْحَةِ الثانية.
قوله :" مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ " في موضع جرِّ صفة لـ " قرن "، وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبارِ معناه.
قاله أبُو البقاء - رضي الله عنه -، والحوفي رحمه الله.
وضعَّفه أبو حيان بأن " من قرن " تمييز لـ " كم "، فـ " كم " هي المُحَدَّثُ عنا بالإهلاكِ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا ؛ إذ " من قرن " يجري مجرى التَّبْينِ، ولم يُحَدَّث عنه.
وجوَّز أبو حيَّان - رحمه اللَّهُ تعالى - أنْ تكون هذه الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرِ، قال : كأنَّه قيل : ما كان من حَالِهِمْ ؟ فقيل : مَكَّنَّاهم، وجعله هو الظَّاهر، وفيه نظرٌ، فإنَّ النكرة مُفْتِقِرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى :﴿مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ وقوله :﴿مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾ [أن " مكنة في كذا] أثبته فيها، ومنه {وَلَقَدْ
٢٩