اسْتَأنَفْتَ بعدها " لَيَجْمَعَنَّكُمْ " وإن شئت جَعَلْتَهَا في موضع نصبٍ كما قال :﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ﴾ [الأنعام : ٥٤] قال شهابُ الدين - رحمه الله - : واسْتِشْهَادَهُ بهذه الآية الكريمة حَسَنٌ جداً.
ورَدَّ ابن عطيَّة هذا بأنه يَلْزَمُ دخول نون التوكيد [في الإيجاب قال : وإنما تدخل على الأمْر والنهي، وجواب القَسَمِ، ورد أبو حيان حصر ابن عطيَّة ورود نون التوكيد] فيما ذكر صحيحٌ، وردَّ كون " ليجمعنَّكم " بدلاً من الرحمة بِوَجْهٍ آخر، وهو أنَّ " ليجعنكم " جوابُ قَسَم، وجملةُ الجوابِ وَحْدَهَا لا موضوع لها من الإعراب، إنما يُحْكمُ على مَوْضع جملتي القَّسِمِ والجواب بمحلِّ الإعراب.
قال شهابُ الدين : وقد خلط مَكِّي المَذْهَبَيْنِ، وجعلهما مذهباً واحداً، فقال :" لَيَجْمَعنَّكُمْ " في موضع نصبٍ على البَدَلِ من " الرحمة " واللام لام القَسَمِ، فهي جواب " كَتَبَ " ؛ أنه بمعنى : أوْجَبَ ذلك على نَفْسِهِ، ففيه معنى القَسَم، وقد يظهر جوابٌ عما أوْرَدَهُ أبُو حيَّانَ على غير مكي، وذلك أنهم جَعَلُوا " لَيَجْمَعَنَّكُم " بَدَلاً من الرَّحْمَةِ - يعني هي وقَسِيمها المحذوف، واستغنوا عن ذك القَسَمِ، لا سيما وهو غير مذكور.
وأمَّا مكِّي فلا يظهر هذا جواباً له، لأنَّه نَصَّ على أنَّهُ جواب لـ " كتب "، فمن حَيْثُ جَعَله جَوَاباً لـ " كَتَبَ " لا مَحَلَّ له، ومن حَيْثُ جعله بَدَلاً كان مَحَلُّه النَّصْبَ، فَتَنَافَيَا، والذي ينبغي في هذه الآيةِ الكريمةِ أنْ يكون الوَقْفُ عند قوله :" الرحمة ".
وقوله :" ليجمعنَّكم " جوابُ قَسَم محذوف أي :" واللَّهِ ليجعنَّكُم "، والجملة القَسِمِيَّةُ لا مَحَلَّ لها بما قبلها من حَيْثُ الإعْرَاب، وإنْ تعلَّقت به من حَيْثُ المعنى.
و " إلى " على بابها، أي : ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة.
وقيل : هي بمعنى " اللاَّمط كقوله تعالى :﴿إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ﴾ [آل عمران : ٩] وقيل : بمعنى " في " أي : لَيَجمعنَّكُمْ في يوم القيامة.
وقيل : هي زائدة، أي : ليجمعنكم يوم القيمامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ ﴿تَهْوِى إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم : ٣٧] بفتح " الواو " إلاَّ أنه لا ضرورةَ هنا إلى ذلك.
وتقدَّمَ الكلامُ في ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى﴾ في أول " البقرة " [البقرة : ٢] والجملة حالٌ من " يوم " والضمير في " فيه " يَعُودُ على " اليوم ".
وقيل : يَعُودُ على الجَمْعِ المدلول عليه بالفَعْلِ ؛ لأنه رَدٌّ على منكري القيامة.
٤٦
فصل في الكلام على الآية قال بعضهم : هذا كلامُ لا تَعَلُّق له بما قبله، فيه تصريح بكمال إلهيته سبحانه تعالى بقوله :﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للَّهِ﴾ ثم بَيَّن - تبارك وتعالى - أنه يرحمهم بالإمْهَالِ، ورفع عذاب الاستئصالن وبيَّنَ أنَّهُ يجمعهم إلى يوم القَيَامَةِ.
فقوله :﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة﴾، أي : يمهلهم.
وقوله :﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة﴾ أنَّهُ لا يمهلهم بل يحشرهم ويُحَاسِبُهم بِكُلِّ ما فعلوا.
وقال آخرون : إنه متعلّق [بما قبله]، والتقدير :﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحَمْةَ ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة﴾.
وقيل : إنه لمَّا قال : كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكأنه قيل : وما تلك الرحمة ؟ فقيل : إنَّهُ تبارك وتعالى " ليجمعنكم " [إلى يوم القيامة " وذلك لأنَّهُ خَوْفُ العذاب لحصل الهَرَجُ والمَرَجُ فصار يوم القيامة من أعظم أسْبَابِ الرحمة، فكان قوله :﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة﴾.
كالتفسير لقوله :﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام : ٥٤].
فصل في المراد بهذه الآية اختلفوا في المُرادِ بهذه الرَّحْمَةِ، فقيل : إنَّهُ - [تبارك وتعالى] - يُمْهِلهُمْ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ، ويدفعُ عنهم عَذَابَ الاسْتِئْصَالِ، ولا يعاجلهم بالعُقُوبَةِ [ في الدنيا].
وقيل : المُرَادُ " كَتَبَ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَةَ " لمن ترك التَّكْذِيِبَ بالرُّسُلِ، وقبل شريعتهم وتاب.
فصل في الإخبار عن سعة رحمه الله ورى أبو هرير - رضي الله عنه - قال : قال رَسُولُ الله ﷺ :" لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ كَتَاباً فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي ".
وروى أبو الزّنَادِ، ـ عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة :" إنَّ سِبَقِتْ غَضَبي ".
٤٧


الصفحة التالية
Icon