وقرأ الجمهور " فَاطرِ " بالجر، وفيها تخريجان : أحدهما - وبه قال الزخشريّ والحوفيّ وابن عطيّة - : صفة للجلالة المجرورة بـ " غير "، ولا يَضُرُّ الفَضْلُ بين الصِّفَةِ، والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها ؛ لأنها ليست بأجنبيةٍ، إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف.
الثاني - وإليه نَحَا أبو البقاء - : أنه بَدَلٌ من اسم اللَّهِ، وكأنه فَرَّ من الفَصْلِ بين الصٍّفةِ وموصوفها.
فإن قيل : هذا لازمٌ له في البد، فإنه فَصَل بين التاَّبع ومتبوعه أيضاً، فيقال : إنَّ الفَصْلَ بين البدلِ والمبدل فيه أسهلح لأن البَدَلَ على نِيَّةِ تَكْرَارِ العمال، فهو أقربُ إلى الفَصْلِ، وقد يُرجَح تخريجه بوَجْهِ آخر، وهو أنَّ " فاطر " اسم فاعل، والمعنى ليس على المُضِيِّ حتى تكون إضافته غير مَحْضَةٍ، فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنَّكرة ؛ لأنه في نيَّةِ الانفصال من الإضافة، ولا يقال : اللَّهُ فَاطِرُ السموات والأرض فيما مضى، فلا يُرَادُ حالٌ ولا استقبالٌ ؛ لأن كلام اللِّهِ - تبارك وتعالى - قديمٌ متقدّمٌ على خَلْقِ السموات، فيكون المراتد به الاسْتِقْبَال قطعاً، ويَدُلُّ على جواز كونه في نيَّة التَّنْوين ما يأتي ذكره عن أبي البَقَاءِ قريباً.
٥٣
وقرأ ابن عَبْلَةَ برفعه، وتخريجه سَهْلٌ، وهو انه خبر مبتدأ محذوف.
وخرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ، فيحتاج إلى تقدير خَبَرِ، والدلالَةُ عليه خفيَّةٌ بخلاف تقدير المبتدأ، فإنه ضمير الأول، أي :" هو فاطر ".
وقرئ شاذاً بنصبه، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين : أحدهما : أنه بَدَلٌ من " ولياً " قال :" والمعنى على هذا أجْعَلُ فاطر السموات والأرض غير اللِّهِ "، كذا قدَّرَهُ، وفيه نظر، ؛ لأنه جعل المفعول الأول، وهو " غير الله " مفعولاً ثانياً، وجعل البدل من المفعول الثاني معفولاً أوَّل، فالتدقير عَكْسُ التركيب الأصلي.
والثاني : أنه صِفَةٌ لـ " ولياً " قال : ويجوز أن يكون صَفَةٌ لـ " وَليّاً " والتنوين مُرَادٌ.
قال شهاب الدين : يعني بقوله :" التنوين مُرَاد " أنَّ اسم الفاعل عاملٌ تقديراً، فهو في نِيَّةِ الانْفَصَالِ، ولذلك وقع وَصْفاً للنكرة كقوله :﴿هَـذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف : ٢٤].
وهذا الوجه لا يَكَادُ يَصِحُّ، إذ يصير المعنى : أأتَّخِدُ غير اللَّهِ وليّاً فاطر السموات الحال من الجلالةِ، كما كان " فاطر " صفتها في قراءة الجمهور.
ويجوز على رأي أبي البقاءِ أن تكون صَفَةٌ لـ " وليَّاً "، ولا يجوز أن تكون صَفَةً للجلالة ؛ لأن الجملة نكرةٌ.
والفَطْرُ : الشَّقُّ مُطْلقاً، وقيَّدَهُ الرَّاغب بالشَّقِّ طولاً، وقيَّدّهُ الواحدي بشقِّ الشيء عند إبتدائه.
والفطرُ : إبداع وإيجاد شيء على غير مثال، ومنه ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض﴾، أي : أوجدها على غير مثال يُجْتدى.
وعن ابن عبَّاس : ما كنتُ أدْرِي ما معنى فَطَر وفَاطِر، حتَّى اختصم إليَّ أعْرَابيَّان
٥٤
في بِئرِ، فقال أحدهما :" إنا فَطَرتُهَا "، أي : أنْشَأتُهَا وابتدأتها.
ويقال : فَطَرْتُ كذا فَطْراً وفَطَر هو فُطوراً، وانْفَطَرَ إنْفَطَاراً وفَطَرْتُ الشَّاة : حَلَبْتُهَا بأصْبُعَيْنِ، وفَطرْتُ العَجينَ : خبرْته في وَقْتِهِ.
وقوله تبارك وتعالى :﴿فِطْرتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم : ٣٠] إشارة منه إلى ما فَطَرَ، أي : أبدع وركز الناس من معرفته [ما ركز]، ففطرة اللِّهِ ما رُكِّز من القُو‍ِّةِ المُدْرِكة لمعرفته، وهو المُشَارُ إليه بقوله تعالى :﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف : ٨٧].
وعليه :" كُلُّ مولودٍ يُوْلَدُ على الفِطْرَةِ " الحديث.
وهذه الآية الكريمة نزلت حين دعا إلى الله آباءه فقال تعالى : يا محمد ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً﴾ رباً معبوداً وناصراً ومعيناً.
قوله :﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ القراءة المَشْهُرة ببناء الأوَّل للفاعل، والثَّاني للمعفول، والضمير للِّهِ تعالى، والمعنى : وهو يَرْزَق، وهو موافق لقوله تعالى :﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات : ٥٧].
وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد بن حبر، والأعمش، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، وأبو عمرو العلاء في رواية عنه : وَلاَ يَطْعَمُ " بفتح الياء والعين، والضميرُ في ولا يُطْعِم للولِيّ.
وقرأ يعقوب في رواية أبي المأمون :" وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم " ببناء الأوَّل للمفعول، والثَّاني للفاعل، على عَكْسِ القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترين في الفعلين للولي فقط أي : وذلك الولي يُطعمه غيره، ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزِه.
وقرأ الأشْهَبُ :" وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم " ببنائهما للفاعل.
٥٥


الصفحة التالية
Icon