قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : ليت شِعْري، ولأي معنى خصَّ الزمخشري بهذا الاعتراض، فإنه وَارِدٌ على أبي عَلِيِّ أيضاً ؟ إذ لقائل أن يقول : التأنيثُ في " جَاءَتْ " لحمل على معنى " ما " وإنْ لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مَثْل " مَنْ " ن على أنه يقال : للتأنيث عِلَّتانِ، فذكر [إحداهما، ورجَّح] أبو عُبيدة قراءة الأخويْ ن بقراءة أبَيّ، وابن مسعود :" وما كان فتنتهم إلاَّ أن قالوا " فلم يُلْحِق الفعل علامة تأنيثٍ، ورجَّحها غيره بإجماعهم على نَصْبِ " حُجَّتهم " من قوله تبارك وتعالى :﴿كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الجاثية : ٢٥].
وقرئ شاذاً " ثم لم يكن فتنتهم إلا أنه قالوا " بتذكير " يكنْ "، ورفع " فتنتهم ".
ووجه شُذُوذِهَا سقوط علامةِ التأنيث، والفاعل مؤنّث لَفْظاً، وإن كان غير حَقيقيِّ، وجَعْلُ غير الأعْرَفِ اسماً، والأعرف خبراً، فهي خبراً، فهي عَكْسُ القراءة الأولى، من الطَّرَفَيْنِ، و " أن قالوا " مما يجب تأخيره لِحصْرِهِ سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً.

فصل في معنى الفتنة في الآية معنى قوله :" فتنتهم "، أي : قولهم وجوابهم.


وقال ابن عبَّاس، وقتادة : معذرتهم، والفِتْنَةُ التِّجْرِبةٌ، فلمَّا كان سؤالهم تَجْرِبَةً لإظهار ما في قلوبهم قيل : فَتْنَة.
فصل في بيان لطيفة في الآية قال الزَّجَّاج - رحمه الله - " لم تَكُنْ فتنتهم " معنى لَطِيفٌ، وذلك لأنَّ الله - تبارك وتعالى - بيَّن أنَّ المشركين مَفْتُونُونَ بِشِرْكِهِمْ متهالكين على حبّه، فأعلم
٧٤
في هذه الآية الكريمة أنه لم يَكُنْ افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه إلاَّ أن تَبَرَّأوا عنه وتباعَدُوا، فَحَلفُوا أنهم ما كانوا مشركين، ومثاله أن ترى إنساناً ما يُحِبُّ طريقةً مذمومة، فإذا وقع في فِتْنَةٍ بسببه تَبَرَّأ منه، فيقال له :" ما كانت محبتك لفلان إلاَّ أن فَرَرْتَ منه "، فالمُرَادُ بالفتنة هنا افْتَتَانُهُمْ بالأوْثَانِ، ويتأكد بما روى عَطَاءٌ عن ابن عباس أنه قال :" لم تكن فتنتهم " معناه : شركهم في الدنيا، وهذا القولُ راجعٌ إلى حذف المضاف ؛ لأن المعنى ثُمَّ لم تكن عَاقِبَةُ أمرهم فتنتهم إلاَّ البَرَاءة.
قوله :" واللَّهِ رَبَّنَا " قرأ الأخوان :" ربَّنا " نَصْباً، والباقون جراً.
ونصبه : إمَّا على النِّداء، وإمَّا على النِّداء، وإمَّا على المَدْح، قاله ابن عطيَّة - رحمه الله - وإمَّا على إضْمَار " أعني "، قاله أبو البقاء، والتقدير : يا ربنا.
وعلى كُلِّ تقدير فالجملة مُعْتَرضَةٌ بين القسم وجوابه، وهو قوله ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وخفضه من ثلاثة أوجه : النعت، والبدل، وعطف البَيان.
وقرأ عكرمة، وسلام بن مسكين :" واللَّهُ رَبُّنا " برفعهما على المبتدأ والخبر.
قال ابن عطية :" وهذا على تَقدِيمٍ وتأخيرٍ، كأنهم قالوا : واللَّهِ ما كُنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنَا " يعني : أن ثَمَّ قَسَماً مُضْمَراً.
فصل في الكلام على الآية ظاهرُ الآية الكريمة يقتضي أنهم حَلَفُوا في القيامة أنهم كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقْدَامَهُمْ على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان : الأول : وهو قول أبي عباس على الجبائي والقاضي - : أنه أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتج عليه بوجوه : الأول : أن أهل القيامة يعرفون الله بالاضطرار وأنهم لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دَاَرَ تكُليفٍ، وذلك باطلٌ، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار
٧٥


الصفحة التالية
Icon