وقال بعضهم :" الكِنُّ " - بالكَسْرِ - ما يُحْفَظُ فيه الشَّيء، وبالفتح المصدر.
يقال : كَننْتهُ كِنّاً، أي : جعلته في كِنِّ، وجُمِعَ على " أكنان " قال تبارك وتعالى :﴿مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً﴾ [النحل : ٨١].
والكِنَانُ : الغِطَاءُ السَّاتِرُ، والفعل من هذه المادة يُسْتعمل ثلاثياً ورُبَاعيَّاً، يقال : كَنَنْتُ الشَّيء، وأكنَنْتُه كنَّا وإكناناً، إلاَّ أن الراغب فَرَّق بين " فَعَلَ " و " أفْعل "، فقال :" وخُصَّ كننت بما يستُر من بيت، أو ثوب، أو غير ذلك من الأجسام "، قال تعالى :﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُون﴾ [الصفات : ٤٩] وأكننت بما يستر في النفس، قال تعالى :﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة : ٢٣٥].
ويشهد لما قال قوله :﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾ [الواقعة : ٧٧ - ٧٨] وقوله تعالى :﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ [القصص : ٦٩].
و " كِنَان " يُجمع على " أكِنَّة " في القِلٌّةِ والكَثْرَةِ لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمَعُ في القِلَّةِ على " أفْعِلة " كـ " أحمرة " و " أقْذِلَة "، وفي الكَثْرَةِ على فُعُل كـ " حُمُر "، و " قُذُل "، إلاَّ أن يكون مُضاعفاً كـ " بَتَات " وكِنَان "، أو معتل اللام كـ " خباء و " قباء "، فيلتزم جمعه على " أفْعِلَة "، ولا يجوز على " فُعل " إلاَّ في قليلٍ من الكلام كقولهم :" غُنُن "، و " حُجُج " في جمع " عِنان " و " حجاج ".
قال القرطبي : والأكِنَّةُ : الأغْطِية مثل : الأسنَّة والسَّنَان، والأعنَّة والعِنَان، كَنَنْتُ الشيء في كِنَّةٍ إذا صُنْتهُ فيه، وأكْنَنْت الشَّيء أخْفَيْتُهُ، والكِنَانَةُ معروفة، والكَنَّة - بفتح الكاف والنون - امرأة أبيك، ويقال : امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنة.
قوله :" أنْ يَفْقَهُوهُ " في مَحَلِّ نَصْبٍ على المفعول من أجْلِهِ، وفيه تأويلان سَبَقَا.
أحدهما : كَرَاهَةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين.
والثاني : حَذْفُ " لا "، أي : أن لا يَفْقَهُوهُ، وهو رأيُ الكوفيين.
قوله :" وَقْراً " عطفٌ على " أكِنَّة " فَيَنْتَسِبُ انْتَصَابَهُ، أي : وجعلنا في آذانهم وقرأ و " في آذانهم " كقوله :" عَلَى قُلُوبِهِمْ ".
وقد تقدَّمَ أنَّ " جَعَل " يحتمل معاني ثلاثة، فيكون هذا الجار مبنيَّاً عليها من كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ، أو متعلّقاً بها نفسها أو حالاً.
٧٩
والجمهور على فتح الواو من " وَقراً ".
وقرأ طَلحةُ بن مُصَرفٍ بكسرها، والفرق بين " الوَقْر " و " الوِقْر " أنَّ المفتوح هو الثِّقَلُ في الأذُنِ، يُقال منه : وَقَرتْ أذنه يفتح القاف وكسرها، والمُضارع تَقِرُ وتَوْقَر، بحسب الفعلين كـ " تعد " و " تَوْجَل ".
وحكى أبو زيد : أذُنٌ مَوْقُورة، وهو جَارٍ على القياس، ويكون فيه دليلٌ على أنَّ " وَقَرَ " الثلاثي يكون متعدياً، وسُمِع " أذنٌ مَوْقُورةٌط والفعل على هذا " أوْقَرْتُ " رباعياً كـ " أكرم ".
و " الوِقْر " - بالكسر - الحِمْلُ للحمار والبَغْلِ ونحوهما، كالوَسْق للبعير.
قال تعالى :﴿فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً﴾ [الذاريات : ٢] فعلى هذا قراءة الجموهور واضحةٌ، أي : وجعلنا في آذانهم، ثِقَلاً، أي : صَمَاً.
وأمَّا قراءة طَلْحَةَ، فكأنه جعل آذانهم وقَرَتْ من الصمم كما تُوقَرُ الدَّابَّةُ بالحِمْلِ، والحاصلُ أنَّ المادة تَدُلُّ على الثَّقَلِ والرَّرانة، ومنه الوَقَارُ للتُّؤدَةِ، والسَّكينة، وقوله تعالى :﴿وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ فيه الفَصْلُ بين حَرْفِ العَطْفِ وما عطفه بالجار مع كون العاطف [على حرف واحد] وهي مسألة خلاف تقدَّم تَحْقِيقُهَا في قوله :﴿أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء : ٥٨].
والظاهِرُ : أن هذه الآية ونظرئرها مثل قوله تعالى :﴿رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة : ٢٠١] ليس مما فُصِلَ فيه بين العاطف ومعطوفه كما تقدَّم.
فصل في بيان سبب نزول الآية قال الكَلْبِيُّ عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : اجتمع أبو سفيان بن حَرْبٍ، وأبو جهل بن هِشَام، والوليدُ بن المُغيرَةِ، والنضر بن الحارث، وعُتْبَةُ وشَيْبةَ ابنا رَبِيعة، وأميَّة وأبَىُّ ابنا خلفّ والحرث بن عامرٍ يستمعون القرآن العظيم، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة : ما يقول محمد ؟ قال ما أدري ما يقول إلاَّ أنه يُحَرِّكُ لِسَانُه وشَفَتَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بأسَاطِير الأوَّلين مثل ما كنت أحَدِّيَكُم عن القرون الماضية، وكان النَّضر كَثِرَ الحديث عن القُرونِ وأخبارها، فقال أبو سفيان : أبي لأرى بَعْضَ ما يقول حقاً.
فقال أبو جَهْلِ : كَلاّ، لا تقرّ من هذا، وفي رواية : للموتُ أهونُ علينا من هذا، فأنزل الله تعالى :﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ أي : إلى كلامك، " وجَعَلْنَا علَى قُلُوبِهِمْ
٨٠